يا بَيّي شو صعب الرجّال يكون بَيّ... يا بيّي شو صعب الرجّال ياخد قرار يتزوّج ويرأس عائلة ويطمح لأن يكون بيّ كلّ الأولاد فيها.
يعتقد كثير من الرجال أنّ مهمّتهم الأبوية بعد الزواج لا تتعدّى الفرض البيولوجي في الإنجاب، وبأفضل الأحوال دفع ثمن الأكل والشرب والأقساط التعليمية، فيبزّرون ومن ثم يغيبون، ولا يعودون إلى البيت إلّا للتأديب والخبيط وفرض سلطة أبوية مزيّفة بقوّة العائلة أو العشيرة. هذا النوع من الرجال يُسكن أولاده في منزل ويمنّنهم بالمبيت، ويضع الطعام على طاولة سفرته ويتكارَم عليهم من جوعهم، ويضع الماء في أكوابهم ويلحس من عطشهم مع كل شفّة.
إذا لبسوا يعيّرهم بكرمه، وإذا جلسوا قرب النار التي دفع ثمنها يتباهى عليهم بحنانه. هذا النوع من الآباء هو أحقر نوع رجال على الأرض، يفرض الحياة على أولاد لم يختاروا المجيء، ومن ثم يستعجلهم الرحيل إلى وظيفة في سنّ مبكرة أو إلى زواج مضعضع حتى يخفّ مصروف حنانه عليهم.
رجال كثيرون يتزوّجون طمعاً بامرأة تهتمّ بهم، وإذ يكتشفون أن مع هذا الاهتمام الموعود يأتي اهتمام مفروض على أولاد أبرياء، أولاد يبحثون عن بطل وعن مثال يحتذى به وعن سند يتكئون عليه في المصاعب، وإذ بهم لا يجدون سوى كلمة بابا تخرج من أفواههم وتصطدم بأذن صاغية إلى نشرة أخبار، أو إلى «دَقّ ورق»، أو إلى صوت تعميرة أرغيلة.
الأكل والشرب والثياب لا تجعل من الرجل أباً، والأقساط والفواتير وكمبيالات المنازل لا تجعل من الرجل بطلاً.
وقت تكون بيّ... الله يكون بعونك، فإذا لم تكن مديوناً ومريضاً وتعباناً ولا تذوق النوم، لا يمكنك أن تحظى بلقب أب في لبنان. وإذا لم تكن حنوناً أكثر من زوجتك التي تسعفك بمصاريف البيت، وحاضراً لتوديعهم إلى المدرسة واستقبالهم عندما يعودون، وموجوداً عندما يدرسون ويكبرون ويكتشفون الحياة، فلا يمكنك أن تتشرّف بكلمة بابا تغنّج مسمعك.
صحيح أنّ الأم تتعب كثيراً في تربية أولادها والاهتمام بهم، ولكن ذلك لا يمنح الرجل امتياز الأبوة مجاناً، خصوصاً أنّ الأولاد يستسهلون عاطفة والدتهم ويتعطّشون إلى وجود والدهم وحنيّته.
وتكاد الأبوة سلعة يشتريها الأب من أولاده بأموال تعبه وكدّه واهتمامه... وهي على عكس عاطفة الأم التي تُمنح مع شهادة الولادة، هيبة الأب مهمّة يومية لا تفرضها الشوارب المفتولة ولا الكبر في السنّ ولا روابط الإسم والإرث، بل هيبة تأتي من رضى الأولاد على أداء والدهم البيولوجي في مهماته الاجتماعية والانسانية والمالية.
أن تكون بيّ يعني ان تحب ولدك المريض بقدر الصحيح، يعني أن تكون عيني ولدك الأعمى وفم ولدك الأبكم وأذني ولدك الأصمّ... أن تكون بيّ يعني أن تحنّ على ابنتك إذا اغتصبت وابنك إذا دخل السجن وأولادك إذا كانوا قطّاع طرق وتجّار مخدرات كما يخاف الراعي على أضعف خروف في قطيعه.
فالأب يحمي أولاده ليس بين جدران المنزل، وليس في البناية بين الجيران، وليس فقط في الشارع والمنطقة والضيعة والمدينة... الأب يحمي أولاده حتى لو كانوا مهاجرين إلى كندا، أو إذا كانوا موقوفين في الصين. الأكل والشرب والثياب تبقى في المنزل عندما يكبر الأولاد، ولا يبقى معهم من والدهم إلّا ما رسخ في أذهانهم من حب غير مشروط، ودعم غير محدود، وحنيّة تعيدهم إلى رائحة مريول مطبخ والدتهم.
وإذا كانت عاطفة الأم زاداً للحياة، فهيبة الأب قوة خارقة يمتطيها الأولاد حتى لو كان والدهم مهاجراً، مطلّقاً، مريضاً، أو حتى ميتاً.
لا عطف الأخوال ولا بطولات الأعمام، ولا اهتمام العمّات وحنيّة الخالات تسعف الرجل في أن يكون أباً أفضل، ولا حتى مشورة الجيران تساهم بشيء... الأب يطيع ويُطاع، يسمع ويتكلّم، يسأل ويجيب، يطلب وينفّذ... الأب لا يستطيع أن يكون أباً لولد من دون آخر، فإمّا أن يكون بيّ الكلّ أو لا يكون.