تقول مصادر مطّلعة على مشاورات التأليف إنّ تحوّلاً فعلياً حصل في البلد في 17 تشرين الأول 2019، ويمرّ لبنان الآن في مرحلة مختلفة تماماً عن المراحل السابقة، تتطلّب تفكيراً مغايراً ونبضاً جديداً ومخارج عمليّة وأدبيات حديثة وحلولاً نوعيّة. وتشير إلى أنّ البعض لا يزال يعيش مراحل الترف السياسي و«يتسلّى» بتقديم طروحات يعتبر أنّها ستحتوي النقمة الشعبية، فيما أنّ البلد في صلب أزمة «وجودية»، تتطلّب إجراء تشخيص حقيقي للواقع، واتخاذ القرارات المناسبة لتجنّب الدمار الذاتي، إذ لم يعد أيّ استحقاق مثل تأليف الحكومة مرتبط برغبات ومصالح أطراف السلطة.
لذلك، على السلطة أن تقتنع أنها هي المشكلة بالنسبة الى اللبنانيين الذين يعمّون الشوارع والساحات توقاً الى غدٍ أفضل. فاللبنانيون فقدوا الثقة في الطبقة الحاكمة منذ سنوات، لأنها أخفقت في أداء مهماتها، إن بسبب عجزها أو لاستغلالها السلطة وضلوعها في الهدر والنهب والفساد.
ويصرّ كثيرون من المتظاهرين في كلّ الساحات من طرابلس وصولاً الى صور، على أنّ ما يريدونه هو حقوقهم المواطنية البديهية وليس مطالب معيّنة من السلطة. وفي جولة ميدانية على عدد من الساحات خلال الأيّام الـ27 الماضية، يُمكن تلمّس مدى تشابه المطالب، إذ إنّ المواطنين في لبنان جميعاً متساوون في سلبهم حقوقهم والشعور بأنّ كرامتهم مفقودة في بلد «كلّ شي فيه شحادة».
الياس السبعيني من جبيل عمل 30 عاماً في أحد المصانع، وحين أُحيل الى التقاعد لم يكن يتجاوز راتبه الشهري المليون ليرة لبنانية. وكان سبق له أن أنفق تعويضه على علاج زوجته المُصابة بالسرطان. الياس يعاني اليوم من السكري بسبب «التعصيب»، فالرجل لا يتحمّل فكرة أنّ ولده الوحيد لا يتمكّن من الزواج، لأنّه مُجبر على إعالة والديه، فالياس عاجز حتى عن دفع ثمن علبة سجائر بعد تعب سنوات طويلة، إذ لا ضمان شيخوخة في لبنان، وحين يتقاعد الموظف لا يحصل على معاش تقاعدي، بل إنّ انتسابه الى صندوق الضمان الاجتماعي يُجمّد في أكثر مرحلة يحتاج إليه.
طارق الشاب الثلاثيني من البقاع، أتى خصيصاً من نيجيريا للمشاركة في «الثورة». عمل في إحدى الدول العربية لـ10 سنوات في قطاع مساحة الأرض، حرم نفسه كلّ ملذات الحياة ليتمكّن من شراء أدوات المهنة للعودة والعمل والعيش في لبنان. عاد إلى بلده عام 2016 وبدأ العمل، إلّا أنّ كلّ ما كان يجنيه لم يكن يكفي لدفع إيجار شقة والفواتير الشهرية. باع «عدّة العمل» بأقلّ من نصف سعرها وهاجر مجدداً، هذه المرة إلى أفريقيا. وما زال يأمل في أن تتغيّر السلطة في لبنان، لكي تتغيّر الأوضاع، ويتمكّن من العودة الى بلده والزواج والاستقرار.
في ساحة رياض الصلح، يُشارك شادي وزوجته معاً في التظاهرة كلّ أحد. ويقول: «أحمل شهادة في الهندسة الميكانيكية وأعمل في إحدى الشركات، أمّا زوجتي فتعمل في قطاع المحاسبة. تزوجنا منذ سنتين، وإلى الآن لا نتجرّأ على الإنجاب، لأنّ ما نجنيه شهرياً بالكاد يكفي لتسديد أقساط القرض السكني والفواتير، ونتكلّف كثيراً على البنزين بسبب غياب المواصلات العامة...».
أمّا علي الذي يعمل في مطعم مشهور، فخُفّض راتبه الى النصف منذ 3 أشهر، بسبب «قلة الشغل». ويخبر: «أنا مرتبط بفتاة منذ 10 سنوات، حين قررنا شراء منزل توقّف منح القروض السكنية، فقررنا أن نبني شقة صغيرة فوق منزل والديها، كنّا نملك بعض المال استهلكناه لرخصة البناء، وأكملنا دفع مستحقات البناء عبر «الشيكات المؤخرة». ويُضيف: «حين بدأت أتقاضى نصف راتبٍ بعتُ سيارتي لأتمكّن من دفع المبالغ المتوجّبة عليّ. يُمكنني الاستمرار في الدفع لشهرين إضافيين، بعدها لا أعلم ماذا سأفعل، وقد أدخل السجن إذا لم أتمكّن من إيجاد وظيفة ثانية».
إحدى السيدات الطاعنات في السن من طرابلس، تكتفي بالقول: «أنا بشحَد فعلياً تا إشتري الدوا إلي ولزوجي».
أمّا الشابات والشبان، فيريدون دولة قانون عصرية، ويريدون أن يتعلّموا ويعملوا في بلدهم. يريدون قانوناً موحداً للأحوال الشخصية وزواجاً مدنياً... وبيئة نظيفة ومستقبلاً كريماً.
هذه عيّنة من الحقوق البديهية التي يفتقدها اللبناني، والتي جعلته ينتفض في 17 تشرين الاول لاسترداد حقوقه ومحاسبة من أوصَله إلى قعر الحياة. وسبق أن حاول كثيرون إيصالها إلى رئاسة الجمهورية والسلطة بكاملها، خصوصاً عبر وسائل التواصل الاجتماعي، إلّا أنها كانت تُعتبر «شائعات» و«استهدافاً».
وها هُم اللبنانيون يرددونها منذ 27 يوماً، وسلّموها الى السلطة بأكثر وسائل الإتصال علانية ووضوحاً، بصراخهم ووجعهم وبكائهم، مكتوبةً في عيونهم الناقمة ومرسومة على وجوههم التعِبة ومحفورة في أيديهم الهَلكة. ولو نجحت السلطة في تأمين بعض هذه الحقوق خلال السنوات الأخيرة، ربّما لَما انتفض اللبنانيون عليها، أو لكانوا أعطوها فرصة أخرى.