ما زالت السلطة في لبنان تبحث عن بقائها، والناس تبحث عن رحيلها. السلطة في العراق تعطي المتظاهرين الرصاص، والمتظاهرون يقدمون لرفاقهم الطعام والنقل المجاني. ويقدم الأهالي في لبنان للمتظاهرين الحلوى وفطائر الصعتر. والسلطة ترى أن هذه مساعدات مشبوهة للانقلاب على أنجح طبقة سياسية في تاريخ لبنان: الازدهار، مثل القمامة، حتى الركبتين.
للمرة الأولى في حياتي أتعرف إلى خريطة لبنان. قرى ودساكر وبلدات لم أسمع بها من قبل. كل يوم مظاهرة أخرى في مكان آخر. لعبة استغماية لا نهاية لها بين الثوار والسلطة. بدأت ببضع ساحات معروفة، وامتدت إلى الجرود والمناطق المعزولة. والسلطة غير قادرة على تشكيل حكومة وغير عابئة بالكارثة المتربصة على حافة الهاوية، وجبران باسيل أطل ليعطي درساً في قانون العفو.
لا أعرف عدد، أو نسبة اللبنانيين الذين يضربون رؤوسهم في الحائط يتساءلون ماذا تنتظر السلطة، وبأي عقل، أو قلب، أو إدراك، أو مسؤولية، تداعب هذا الانهيار المعلن، تماماً كما في رواية غابرييل ماركيز «مدونة موت معلن سلفاً» عندما تعرف البلدة برمّتها، أنها تعرف القتلة والقتيل وموعد القتل، ومع ذلك لا أحد يفعل أي شيء للحؤول دون وقوع الجريمة.
كأنما هناك في اللاوعي من يريد أن يقتل لبنان وإنهاء أسطورة قدرته على النهوض من جديد. ولن يكون أحد مسؤولاً عن ذلك في هذه المتاهة المريعة من الصمت والسكوت والخوف.
غريب هذا المشهد التاريخي: الناس يداً واحدة وقلباً واحداً، والسلطة السياسية في ثوبها الرث والمرقّع والمرتّق والمهترئ. كأنما هي سلطة لشعب يعرفها جيداً، ولا تعرفه أبداً. هو من رحم الشجاعة والصدق، وهي من خارج الرحم.
بل هي من خارج الرحمة. ومن خارج البلد، وإلاّ كيف تسمح لنفسها أن تتركه معلقاً مثل محكوم بالموت شنقاً حتى الوفاة؟ أكرر كثيراً القول «إنني لم أشهد في حياتي شيئاً مثل هذا»، ليس لأنني نسيت أنني ذكرتها من قبل، بل لكي أذكر الأجيال بأن لبنان لم يشهد مثل هذا الفخ الأخلاقي حتى في الحرب والقتال. سابقتان لا مثيل لهما: الرفعة التي بلغتها الثورة، والسقوط الذي بلغته السلطة السياسية. أو بالأحرى الطبقة السياسية. كان الروائي الأميركي فيليب روث يقول إن الرفاهية ممنوعة في العمل السياسي. لم يقل إن الذوق ممنوع هو أيضاً.