إنها ليست وساطة بالمعنى الحقيقي. تحديداً، أوفد الرئيس إيمانويل ماكرون رئيس دائرة الشرق الأوسط في الخارجية الفرنسية كريستوف فارنو إلى بيروت حاملاً معه تطميناتٍ لا أفكاراً. هو يريد إبلاغ «الحزب»، مباشرة وعبر الحلفاء، أنّ المواجهة المفتوحة حالياً تهدّد لبنان بكيانه، ولن يخرج منها سالماً.
لن يركِّز فارنو على الشقّ السياسي، أي على «حزب الله» كممثِّل للمحور الإيراني، بل على شقّ الإصلاح والإنقاذ الاقتصادي والمالي. فبالنسبة إلى فرنسا، يكفي الإصلاح وتطبيق سلطة القانون وبناء المؤسسات لإبعاد النفوذ المبالغ فيه لـ«الحزب» تلقائياً، ما يشكّل استجابة تلقائية للمطالب الأميركية.
ويدرك الفرنسيون أنّ الطرف الأساسي في مواجهة الشارع المعترض يبقى «حزب الله». ولذلك، هم يعتقدون أنهم ربما يستطيعون إحداث خرقٍ في الجدار المسدود إذا استطاعوا تطمينه بأنّه ليس مستهدفاً، وبأنّه سيبقى صاحب قرار أساسي ولو قدَّم التنازلات.
وفي تقدير الفرنسيين أنّ «حزب الله» يعرف أنّ لا مصلحة له في المضي في الأزمة من دون سقف، لأنّ المسار الانهياري الذي ينقاد إليه البلد سيؤدي أيضاً إلى انهيار نفوذ «الحزب» نفسه. ولذلك، سيكون مستعداً للتفاوض عندما يستنتج أن «الكباش» جِدّي، وأن الوضع خطِر جداً ولا يتحمّل المغامرة. وهذا ما يراهن عليه الأميركيون أيضاً.
ولذلك، سيقوم فارنو بعملية جسّ نبض على مدى يومين في بيروت، ويحمل النتائج إلى باريس، حيث سيلاقيه ديفيد شينكر مطلع الأسبوع المقبل ويطَّلع منه على النتائج.
وينتظر شينكر أن تصبح الظروف أكثر ملاءمة ليزور بيروت، والتي كانت مقررة قبل شهر من أجل تسهيل بدء المفاوضات اللبنانية - الإسرائيلية حول الحدود البحرية واستخراج الغاز من البلوكات الجنوبية. فهل يبدي «الحزب» بعض الليونة؟ وفي المقابل، هل يقتنع الأميركيون بهذه الليونة أم يطلبون المزيد؟
لقد بادر الأمين العام لـ«الحزب» السيد حسن نصرالله إلى توجيه رسائل إلى الأميركيين عشية وصول الموفد الفرنسي. فحمّل الأميركيين المسؤولية واتهمهم بتعميق المأزق اللبناني. وقال انهم يعوقون ملف ترسيم الحدود وملف الغاز. وهذه الرسائل تفتح الباب للأخذ والردّ مع الموفد الفرنسي.
لكن مشكلة الفرنسيين تكمن في أنهم سيبذلون كلّ جهودهم لتليين المواقف، لكنهم في النهاية مضطرون إلى مجاراة واشنطن في ضغوطها على «الحزب».
وأساساً، قرارُهم وقفُ مساعدات «سيدر» ليس فرنسياً بالكامل، بل هو يترجم العقوبات الأميركية على «الحزب» في إطار الصراع المفتوح مع إيران.
لقد أبلغت إدارة الرئيس دونالد ترامب الى كلّ القوى المعنية بأنّ عليها وقف مساعداتها للبنان حتى يتخلّص من نفوذ «حزب الله». والمهلة التي كانت ممنوحة للحكومة اللبنانية، ودامت سنوات طويلة، قد انتهت. ولم يعُد الأميركيون مستعدين لمراعاة «الخصوصية» اللبنانية والتمييز في التعامل ما بين «الحزب» والدولة.
وسبق أن تبلّغ المسؤولون اللبنانيون رسائل متلاحقة، سواء خلال زياراتهم لواشنطن أو عبر الموفدين الأميركيين، ومفادها أنّ واشنطن مضطرة إلى وضع لبنان كله، مع «الحزب»، في سلّة واحدة.
والإنذارات التي وجّهها الأميركيون إلى القطاع المصرفي اللبناني كانت موجعة. ويكفي مثلاً أن تُدرِج واشنطن مصرفاً لبنانياً على لائحة العقوبات، كما جرى لـ«جمّال تراست بنك»، حتى يهتزّ البلد كله مصرفياً ومالياً ونقدياً.
وقد أبلغ وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو الى الرئيس سعد الحريري هذه الأجواء خلال لقاء المزرعة في واشنطن. ثم جاء مساعده ديفيد شينكر إلى بيروت، حيث كانت رسائله في هذا الاتجاه مباشرة وأكثر وضوحاً.
ويدرك المعنيون في لبنان حجم المخاطر من المماطلة والمناورة في التجاوب مع المطالب الأميركية، لكنهم ما زالوا يستسهلون المراهنة على عامل الوقت لحلّ المشكلات. ولكن، هم يعرفون أنّ من الخطر اللعب مع واشنطن.
إذا قرّرت الولايات المتحدة «تركيع» لبنان اقتصادياً أو مالياً أو نقدياً أو حتى أمنياً، فإنه لن يصمد يوماً واحداً. وبات مؤكداً أنّ من المستحيل أن تنفتح أبواب الدعم الأوروبية والعربية على لبنان ما لم يصدر القرار عن الأميركيين في الدرجة الأولى.
وفي اجتماع بعبدا الأخير، تبيَّن أن عمق المأزق سياسي، وأن الحلّ لا يكون إلّا بحكومة جديدة، نظيفة وتوحي الثقة. لكنّ التحدّي الذي يفرض نفسه على «حزب الله» هو: كيف يؤمّن نفوذه الاستراتيجي في أيّ حكومة جديدة، إذا سقطت التركيبة الحالية؟
المطلعون يقولون إن باريس ترى أن حكومة يرأسها الحريري، وتضم تشكيلة ترضى عنها القوى السياسية، ربما تفي بالغرض، فيبدأ تحريك المساعدات، لكنّ الأميركيين لا يبدون ليونة مماثلة. هم يريدون حلّاً يوحي ثقة أكبر، فيما الهمس يتنامى في واشنطن عن فرض عقوبات إضافية على حلفاء «حزب الله»، أي على التركيبة السياسية نفسها.
الأرجح أنها ستكون المحاولة الفرنسية الأولى وتليها سلسلة تحركات يسعى فيها كلّ طرف إلى تأمين مصالحه: باريس تبحث عن حصّتها في «الكعكة» اللبنانية، وواشنطن تتعامل مع لبنان واقتصاده وأمنه باعتباره «من حصّتها» أساساً. وأما إيران فلا تريد خسارة حضورها الاستراتيجي الأكثر أهمية على الشاطئ الشرقي للمتوسط. إذاً، في الانتظار، جولاتٌ كثيرة على الخطين: خطّ التصارع وخطّ التفاوض...