تتواصل حركة الاحتجاج الشعبية في لبنان بعد أكثر من ثلاثة أسابيع على انطلاقتها، ومع فشل محاولات الالتفاف والتحوير والاستيعاب تبرز خلاصة واضحة: بقاء الحراك الشعبي والشارع والناس في واد، والسلطة والفئة المتحكمة في واد آخر. ولا يبدو أنهما سيلتقيان.
وبالرغم من فشل محاولات الاستيعاب والتحوير والإخماد، تراهن القوى الأساسية في السلطة على استعادة زمام المبادرة من الشارع خاصة بعد قرار فتح الطرقات، فإذ بثورة الطلاب والابتكار في المبادرات يمنحان “ثورة 17 تشرين الأول/ أكتوبر” زخما جديدا يؤكد ولادة رأي عام من أجل التغيير الحقيقي. في المقابل، تدور المناورات من أجل تجديد التسوية الرئاسية السلطوية في 2016 وكأن الانتفاضة لم تحصل.
هكذا يوجد الحراك الشعبي على مفترق الطريق بين مساعي إنهاكه ومحاولات تقسيمه من جهة وسباق الطبقة السياسية بين الانهيار الاقتصادي وتأليف الحكومة العتيدة. بيد أن الصعوبات الحالية ليست بغريبة لأسباب بنيوية نتيجة التركيبة الطائفية والنيو-الليبرالية المفرطة، إلى جانب وجود لبنان على خط الزلازل الأميركي- الإيراني. لذا لن تنفع المعالجات السطحية والمهدئات ولا بد من شرطين موضوعيين للإنقاذ: النقلة النوعية من الطائفية إلى المواطنة وتحييد لبنان عن لعبة المحاور الإقليمية.
من أجل تفادي الوقوع في مأزق والمراوحة في المكان، تبرز أهمية الاستماع إلى نبض الشارع واعتماد الواقعية في التدرج بتحقيق المطالب من خلال الإسراع في تشكيل حكومة “نظيفة” والشروع في خطوات إنقاذية فعلية. بيد أنه يتوجب الإقرار أنه بالإضافة إلى العوامل المعقدة التي تتحكم عادة في الوضع اللبناني يبرز الآن معطى جديد يتمثل بزخم الشارع وإمكانية استمرارية الدور الرقابي للرأي العام في ظل التجارب السابقة المريرة والقلق من التدهور المالي والاقتصادي. ولذا فإن ارتسام الحل المقبول أو الممكن يتطلب تفاهما بين أصحاب الحل والربط من أهل الحكم مع مراعاة الشارع هذه المرة.
وفي هذا الصدد يبدو أن غالبية الطبقة السياسية لا تتعامل بجدية مع خطورة المرحلة ووجوب اتخاذ قرارات ملحة والبدء بتشكيل حكومة إنقاذ اقتصادي وانتقال سياسي، عبر تقصير ولاية مجلس النواب وإعادة إنتاج السلطة وفق قانون انتخابي غير طائفي. وإذا كان التعديل الحكومي الذي يستبعد وزراء “مستفزين” ورموز فساد، غير ممكن قبل استقالة الرئيس سعد الحريري، يبرز الإشكال اليوم حول طبيعة الحكومة بين حكومة اختصاصيين حيادية غالبا أو حكومة سياسية مطعمة بخبرات وكفاءات. وفي هذا الإطار، كما يمكن أن يكون وجود سعد الحريري على رأس الحكومة حلا، فإنه قد يكون مشكلة في الوقت نفسه، وذلك تبعا لانغماسه في تسوية 2016 مع الرئيس ميشال عون والوزير جبران باسيل بمباركة وإشراف حزب الله.
واللافت أن ابني الشهيدين وسام الحسن ومحمد شطح (من رموز مرحلة 14 آذار الذين قضوا اغتيالا) طالبا أيضا برحيل الحريري. لكن بقاء الرئيس الحريري أو ذهابه لا تتم مقاربته برؤية موحدة من قبل الطرفين الأساسيين في الحكم أي حزب الله (ومعه الرئيس نبيه بري) الذي يبدو حذرا حيال أي تغيير غير مضمون على رأس السراي الحكومي، والتيار الوطني الحر الذي يريد استغلال حراك الشارع للقبض على السلطة وإبعاد فريقي سمير جعجع ووليد جنبلاط من السلطة التنفيذية كي يعبّد جبران باسيل دربه إلى قصر بعبدا مهما كان الثمن.
وفي محاولة لصرف الأنظار وربما للضغط على الرئيس الحريري في المفاوضات، يتم التركيز على رؤساء حكومات ووزراء سابقين من الطائفة السنية في نبش ملفات الفساد في انتقائية مكشوفة ومن دون ذكر كل الملفات على طريقة “كلن يعني كلن” يلفت الخبير الاقتصادي المستقل مروان إسكندر الأنظار إلى الفضيحة في قطاع الكهرباء ويحدد أن “التيار الوطني الحر، هو المسؤول الأساسي عن عجز الكهرباء بما يساوي 30 مليار دولار حتى تاريخه دون احتساب الفوائد (…) لأن الوزير باسيل يرغب دائما في انصياع وزراء الطاقة لإرشاداته علما أن وزراء الطاقة منذ 2008 اختارهم جبران باسيل وكان واحدا منهم في سنة العجز الأكبر سنة 2012”.
في هذا السياق، يعود الرئيس ميشال عون بالزمان إلى الوراء أي إلى حقبة 1989-1990 عندما عارض اتفاق الطائف وتمسك بالسلطة وحينها تم إضعاف دور المسيحيين تحت وطأة الانقسام والتدخل السوري، ومن دون الاستعانة بالذاكرة التاريخية ودروسها، يصر رئيس “العهد القوي” على تأخير الاستشارات النيابية وضمان التأليف قبل التكليف في خطوة تجاوز وتقويض لاتفاق الطائف وأعرافه تحت ذريعة عدم وجود نص دستوري ملزم، وكأن وضع البلاد المريع يتحمل الترف السياسي والجدل البيزنطي والمماطلة. من جهته، يحرص حزب الله على التمسك بوجوده داخل الحكومة وهذا من الأسباب الرئيسية المعيقة لتشكيل حكومة تكنوقراط. وقلق حزب الله على موقعه في السلطة يؤخر تشكيل الحكومة ويعمق المأزق في لبنان الذي يعتبره حلقة أساسية من ضمن صراع “اللعبة الكبرى الجديدة” في الإقليم والممتدة اليوم من العراق إلى لبنان.
هناك مغالاة في اعتبار غضب الشعوب صنيعة المؤامرات، لكن بعض التصريحات الأميركية وآخرها للوزير مايك بومبيو تعطي نظرية التآمر عند البعض نسبة من المصداقية. لكن الطبيعي أن يستغل كل خصم أو كل لاعب دولي وإقليمي مجريات الأوضاع لصالحه عند الإمكان. ولهذا يبدو من الطبيعي بالنسبة لبلد مثل لبنان دراسة وضعه الجيوسياسي بإمعان وأهمية بعده العربي وابتعاده عن الارتهان والانخراط في لعبة المحاور ونتذكر أن شعار “لا شرق ولا غرب” كان عماد صيغة ميثاق الاستقلال في العام 1943، ولا بد في القرن الحادي والعشرين من حوار معمق حول سياسة لبنان الخارجية واستراتيجيته الدفاعية، تضمنان ديمومة كيانه.
رأى البعض في يوم 17 أكتوبر احتفالية مبكرة أحيتها نساء لبنان ورجاله قبل موعد مئوية لبنان الكبير في سبتمبر 1920، وذلك من خلال تجديد الثقة بالكيان من بعلبك في البقاع إلى طرابلس في الشمال مرورا بصور وصيدا والجبل وبيروت، ومن خلال لحظة تاريخية نادرة للوحدة في المعاناة والتطلعات. حتى الآن لا يستشعر أهل الحكم خطورة غليان الرأي العام ومخاطر الانهيار الاقتصادي واللعب على عامل الوقت، ومن هنا لا يتوقع تراجع الحراك الشعبي لأن ثمة الكثير الذي تحقق وأدهش العالم، ولا يمكن تكرار الأخطاء التاريخية، من أجل التوصل إلى تحقيق عقد اجتماعي ووطني يجدد الصيغة اللبنانية بعيدا عن التسويات السلطوية والارتهان.