منذ اليوم الأول للاحتلال الأميركي للعراق وُضعت المرجعية الدينية في النجف في مكان هو ليس مكانها الطبيعي.
لقد ارتأى الأميركان أن تمارس المرجعية دورا يبدو كما لو أنه سياسي غير أنه في الواقع كان دورا خدميا يقع في خدمتهم.
كان ذلك التحول تمهيدا لتكريس الجانب الأبوي، الذي سيستفيد منه السياسيون العراقيون في تمرير عمليات فسادهم معتمدين على مباركة المرجعية الدينية لهم، باعتبار أن سلطتها تقع فوق السلطات.
كان هناك نوع من الخديعة المتبادلة، التي تم التفافهم عليها بشكل غير مباشر.
فحين استفاد المحتل الأميركي من فتاوى المرجعية الخاصة بتهدئة الشارع الشيعي وبث روح الأمل فيه، فإن المرجعية نفسها وسعت في الوقت نفسه من نفوذها، الذي جلب لها إيرادات مالية ما كان من الممكن أن تحصل عليها لو أنها اكتفت بدورها الديني.
ذلك ما حدث من خلال علاقة المرجعية فيما بعد بالطبقة السياسية الحاكمة. ففي مقابل تزكية المرجعية للسياسيين الفاسدين في مناصبهم، فإن المرجعية كانت تنال حصتها من ثروات العراق المنهوبة، من غير أن تتعرض لأي نوع من المساءلة، ذلك لأنها وضعت فوق الشبهات.
لقد جرت الأمور كما لو أن هناك اتفاقا مسبقا، تم إبرامه ما بين سلطة دينية، صارت تستغل تأثيرها على فئات واسعة من الشعب، وبين طبقة سياسية صارت تمارس فسادها بحرية مستفيدة من السحر الذي تمارسه المرجعية على العامة. ذلك الاتفاق هو في حقيقته اتفاق مصالح وضعه الأميركان على الطريق التي لن يتراجع عنها كلا الطرفين.
لذلك فإن المرجعية التي تتمتع بثرائها الفاحش غالبا ما تتدخل حين تشعر أن هناك ما يهدد سلطة الطبقة السياسية. وهو أمر صار مفضوحا بالنسبة إلى عامة الشعب، الذي لا يزال ينظر باحترام إلى المرجعية وإن بدا الكثيرون وبالأخص الشباب يُظهرون تململهم من الدور المريب الذي تلعبه المرجعية.
تاريخيا يمكن القول إن المرجعية كانت مسؤولة عن تثبيت أسس النظام الطائفي الذي كان واجهة للفساد الذي شهده العراق في سنوات ما بعد الاحتلال. لذلك فإنها لم تعلن انحيازها للشعب الذي يرفض ذلك النظام.
وإذا ما كان الشعب العراقي في أوقات سابقة ينتظر كلمة من المرجعية، فإن تلك الكلمة ما عادت ترضي أحدا منه بعد أن خرج الشباب إلى الشوارع محتجين من غير أن تتمكن المرجعية من السيطرة على حراكهم.
لقد تغيرت الكثير من الموازين.
فما من أحد من السياسيين السادرين في تبعيتهم إلى إيران صار يلتفت إلى مرجعية النجف. ذلك لأن معظمهم يرون في خامنئي مرجعا وحيدا لهم. وإذا ما كانت مرجعية النجف لا تزال مصرة على الدفاع عن النظام السياسي القائم فلأنه يمثل الحصانة التي تحمي فسادها وتتستر عليه.
لذلك يمكن القول إن المرجعية اليوم ليست في موضع محترم بالنسبة إلى الشعب والطبقة السياسية. فلقد استهلكت سياسيا ولم يعد لها ذلك التأثير الذي صنعه الأميركان واعتمدوا عليه.
لقد أوهم الأميركان الجميع أن السيستاني هو رجل الحل. خديعة اكتشف الشعب العراقي أنه وقع في حبائلها زمنا طويلا. فالسيستاني إن لم يكن فاسدا كما أوحى بذلك وزير الدفاع الأميركي السابق دونالد رامسفيلد فإنه واجهة لمؤسسة فساد يديرها ابنه محمد رضا. وهو ما صار العراقيون على اطلاع عليه.
ما حدث أن المرجعية الشيعية في النجف خسرت مكانتها الدينية حين أقحمت نفسها في السياسة بطريقة غير نزيهة، وهو ما جعل الشعب العراقي يفقد الثقة بها. ذلك ما فتح العيون على فسادها القديم والجديد. كما أنها سمحت عن طريق تلك الفضيحة للمرجعية الإيرانية في قم بأن تتقدم عليها.
هل يمكن القول إن علي السيستاني تنازل عن شرعية النجف في قيادة العالم الشيعي من أجل أن تتمكن إيران من تنفيذ مشروعها؟
ذلك أمر محتمل في ذلك العالم الذي يلفه الغموض.