خاض الجيش صراعاً دائماً للحفاظ على ما أعلنه العماد عون في اللحظات الاولى لاندلاع الانتفاضة: «أوعا تسقط نقطة دم».
حيّد فؤاد شهاب الجيش، فبقي في الثكن، وصمد في وجه ساحر المسيحيين الرئيس كميل شمعون، فطبّق قاعدة ذهبية، مفادها انّ الجيش ليس أداة السلطة عندما تُخطئ في الممارسة والخيار، وانّه لن يكون وقود فتنة اهلية، فهو دوماً بتركيبته المستمدة من «الموزاييك» اللبناني، هو حارس هذا «الموزاييك»، وليس ضحيتها، لأنّ مهمته، التعامل مع الأزمة بعقل بارد، كي يبقى خلالها وبعدها حارس الاستقرار، وخارج هذه المعادلة يكون الجيش أدخل نفسه ودوره في المجهول.
هكذا تصرّف شهاب في الثورة البيضاء التي اطاحت الرئيس بشارة الخوري، وهكذا تصرّف في ثورة 1958. بعد الثورة الاولى بقي قائداً للجيش، وبعد الثورة الثانية، انتُخب رئيساً للجمهورية، لم يكن هاجسه السلطة، بل نجاح المهمة، اياً كان الموقع الذي يشغله.
قبل اندلاع ثورة 17 تشرين الأول، كانت المؤسسة العسكرية، قد استمزجت توجّه الشارع، فبدا بما لا يقبل الشك أنّ امتعاضاً غير مسبوق يسود لبنان بمعظم مناطقه وطوائفه. حرصت المؤسسة على وضع جميع المرجعيات السياسية بما لديها، لكن لم يكن هناك من آذان صاغية، ولم يعيروا الأمر التفاتاً جدّياً، وكان الجيش يعرف انه سيوضع في فوهة المدفع، وسيُدفع الى ما لا يريده: الى مواجهة الناس في الشوارع. وكانت الـ20 يوماً الماضية قاسية، كانت صراعاً دائماً للحفاظ على ما أعلنه العماد عون للضباط والافراد والعناصر، في اللحظات الاولى لاندلاع الانتفاضة: «أوعا يسقط نقطة دم».
طبّق الجيش القاعدة الذهبية هذه بنسبة تفوق الـ99 في المئة. قائد الجيش وضباط القيادة والألوية، في مكاتبهم وثكنهم وفي الشارع، «24 على 24»، قائد الجيش يعطي الأوامر للضباط والعسكر، باستعمال الاعصاب الفولاذية لمنع حصول أي خطأ، «لا أريد نقطة دم واحدة تسقط من اي مواطن في الشارع».
حوادث عدة خرجت عن السيطرة كإحراق استراحة صور، التي وصل فيها الجيش متأخّراً. حادثة البداوي التي كادت ان تؤدي الى تفاعل سلبي، والسبب قطع الطريق بشكل تام، على الرغم من محاولة الجيش فتحها جزئياً. ما حصل في البداوي، انّ عناصر الجيش بعدما خرجت الامور عن السيطرة، اطلقوا النار، ولكن الرصاص كان مطاطياً فسقطت 6 اصابات، كلها طفيفة باستثناء واحدة، حصلت على بعد أقل من 5 أمتار، وهي المسافة المؤذية في الرصاص المطاطي. لاحقاً تابع الجيش المصاب وعائلته، والأمل في شفاء المصاب موجود، ولكن الحرص على عدم حصول خطأ آخر يؤدي الى سقوط ضحايا، حرص بالغ الشدة. أما ما جعل الجيش يعتز ويفرح فكان قدوم 300 متظاهر من ساحة النور الى البداوي من دون إيعاز من أحد، كي يقولوا لا اصطدام مع المؤسسة العسكرية فهذا جيشنا.
لم تخترع المؤسسة العسكرية المعادلة التي طُبقت في الـ20 يوماً الماضية. كانت تلك المعادلة الوحيدة القابلة للتطبيق، وهي المعادلة التي تحفظ الجيش والمتظاهرين، وتمنع مغامرات التهور، وتعرّض الجيش للضغوط، لكن ما لا يعرفه الكثيرون، انّ هذه الضغوط لم تخرج عن الحدود المعقولة. فالسلطة بكل اركانها كانت تعرف انّ ثورة بهذا الحجم لا تُواجه بالرصاص ولا بالقوة، وانّ من العبث الطلب الى الجيش أن يستعمل القوة في مواجهة شعب ثائر، لأنّ الرصاصة الاولى ستصيب الجيش نفسه، وكان هذا خارج كل الحسابات. وانطلاقاً من هذا الواقع، تعامل الجيش مع قطع الطرق، كما يُفترض التعامل في التوقيت والاداء، وأثمر الصبر الاستراتيجي، والاعصاب الباردة، فتحاً للطرق دون اراقة نقطة دم واحدة.
خلافاً لذلك، لم تكن الاتهامات والتلميحات التي أُطلقت من بعض السياسيين حول التلكؤ، سوى محاولة ضغط غير مجدية، فمن هو على الارض يعرف أكثر من الجالسين وراء المكاتب، او من الذين تأخّروا عن الخروج الى شرفاتهم لاستطلاع ما يجري في الشارع ميدانياً.
في أوج الانتفاضة وقطع الطرق، عمّت لبنان من أقصاه الى أقصاه وقفات احتجاج، كل منها تستلزم فرقة عسكرية لحماية الاستقرار، في جبل لبنان، على سبيل المثال، سجّل الجيش وجود اكثر من 70 نقطة تجمّع للمواطنين، وهذا بحدّ ذاته يستلزم جيشاً، لكن المهمة كانت تستأهل الحجز الكامل للعسكر والضباط، لأيام من دون تبديل او استراحة.
ويبقى السؤال: هل مرّ الأصعب وبقي الصعب، وما هو المتوقع في الأيام المقبلة؟
لا شك في انّ انجاز المهمة في حماية الاستقرار والتظاهرات، وقمع الشغب، نُفذ بنجاح يمكن الرضى عنه، لكن الآتي يمكن ان يحمل المزيد، وهو يتطلب ضبط الشغب العبثي، والاستمرار بتطبيق معادلة حفظ امن الناس، في انتظار الحل السياسي، ولو طال.
من فؤاد شهاب الى جوزف عون، المؤسسة العسكرية تؤدي المهمة، دون ان تأبه للثرثرة، متجاوزة فخاخ من سبّبوا الازمة. اما التاريخ الذي انصف شهاب، فسيكتب كثيراً عن ثورة 17 تشرين الأول، بنفس العقل البارد الذي أُديرت فيه معادلة الحفاظ على الاستقرار، وهي المهمة الاولى والاخيرة.