يدفع وصول الموفد الفرنسي، مدير دائرة شمال افريقيا والشرق الأوسط في وزارة الخارجية الفرنسية، السفير كريستوف فارنو، مطلع الأسبوع المقبل الى بيروت، الى استعادة المبادرات الفرنسية المتعددة في اتجاه لبنان. فباريس بادرت غير مرة منذ عقدين لعقد مؤتمرات باريس الثلاثة، قبل أن تنظّم مؤتمر «سيدر واحد» دعماً للاقتصاد اللبناني وتسهيلاً لتجاوز البلاد مجموعة الأزمات التي تهدّدها في أكثر من قطاع.
قد لا يكون المجال متاحاً اليوم لاستذكار كل هذه المحطات، لكنّ الضمور الديبلوماسي الأجنبي في التعامل العلني مع مستجدات الأزمة في لبنان بقيَ أمراً ملموساً. فمنذ الانتفاضة الشعبية الأخيرة واستقالة الحكومة في ظل مجموعة الأزمات الكبرى التي يتعرّض لها لبنان نقدياً ومالياً واقتصادياً، لم يظهر الى العلن أيّ حراك. وما زاد الطين بلّة أنه أضيفت الى مسلسل الأزمات الأخرى أزمة سياسية كبيرة دفعت اليها الشروط والشروط المُضادة التي تواكِب استقالة الحكومة، والطروحات من أجل تشكيل الحكومة الجديدة قبل تكليف من يشكّلها. ولذلك، فقد تعطّلت كل المراحل الدستورية الإجبارية التي تَلي الإستقالة، لاسيما منها بدء الاستشارات النيابية المُلزمة، وتكليف من يسعى الى تشكيل الحكومة الجديدة تمهيداً لتداول الصيَغ المطروحة في شأنها.
قبل أن يُبادر الرئيس الفرنسي بإيفاد من يتابع الوضع في لبنان عن كَثب، تجدر الإشارة الى ما كان يجري في الكواليس الديبلوماسية من اتصالات بقيت بعيدة من الأضواء. فالسلك الديبلوماسي في لبنان، وإن لم يسجّل الى اليوم حراكاً علنياً بارزاً يُقاس بحجم الحراك الشعبي وانعكاساته، فقد بقيَ على اتصال دائم بالمسؤولين اللبنانيين والأقطاب السياسيين، وتحاشى التنقلات العلنية طيلة فترة قطع الطرق. ولذلك، لم تظهر الى العلن سوى حركة السفير الفرنسي برونو فوشيه في أكثر من اتجاه، فهو قادَ منذ بدء التحركات الشعبية حملة اتصالات، بعضها كان معلناً وبعضها الآخر لم يعلن، بحثاً عن اقتراح يمكن أن يتقدّم به ويشكّل منفذاً لتَدارك الأعظم المُتوقّع، إذا بقي المسؤولون اللبنانيون يتفرّجون على تنامي الأزمة المالية الخطيرة من دون المبادرة الى ما يمكن أن يؤدي الى استعادة الثقة بالحكم والحكومة، ومن أجل مواجهة ما يحصل والحدّ من الخسائر المتوقعة قبل فوات الأوان.
فكل المواقف اللبنانية وخطابات المسؤولين تُجمِع على حجم المخاطر المحيطة بلبنان، من دون أن يبادر أحد الى التراجع او التنازل عن مواقفه الثابتة بحثاً عن المخارج التي يلتقي عليها الجميع بالحد الأدنى. فما قادت اليه الانتفاضة الشعبية، وما أطلقته الحناجر من هتافات اعترف بصُدقها الجميع في العلن، ولكن سرعان ما تراجع البعض عن مواقفه للتشكيك بقيادتها، باحثاً عمّا يُثبت اتهامه بأبعادها الديبلوماسية والمخابراتية المحلية والخارجية، وجاءت مواقفه لتعبّر عن حجم التوَجّس منها. فشمول الانتفاضة البيئات الحاضنة لمعظم أحزاب لبنان وأكثرها قوة وانتشاراً، شكّلت تهديداً مباشراً لسمعتها وعلى مصالحها الآنية والبعيدة المدى. لذلك، سارعت عن قصد أو غير قصد الى كل ما يُزكيها، وقدمت اليها الهدايا على أطباق من ذهب يومياً، بدل السعي الى ملاقاتها بكل صدق وشفافية.
عند هذه الملاحظات، تتوقف المراجع الديبلوماسية عند قراءتها للتحرك الفرنسي. فباريس عبّرت غير مرة عبر موفدها المكلّف متابعة تنفيذ مقررات مؤتمر»سيدر 1» السفير بيار دوكان، الذي قال ما يقول به اللبنانيون اليوم، منذ أشهر. فهو أوّل مَن حذّر ولفتَ الى حجم المخاطر التي تقود اليها السياسات اللبنانية، وراح البعض يشكّك بما حذّر منه، ووُضعت سلسلة التقارير التي وصلت عبر أكثر من مصدر في «الجوارير» العميقة، وتعامى هذا البعض عن التوقعات السلبية التي كانت تذرّ بقرنها من أكثر من طرف ومؤسسة مكلّفة بالتصنيف الائتماني للبنان.
وتعترف المراجع عينها أنّ التحذيرات الفرنسية التي عبّرت عنها أكثر من جهة لم تكن يتيمة ولا فريدة من نوعها، على رغم أنها كانت أخطرها. فهي تلاقَت في شكلها ومضمونها وأهدافها مع أخرى من مصادر متعددة، وأجمعَت على التنبيه من مخاطر ما هو آت. وجاءت الانتفاضة لتترجمها على وَقع سلسلة من الإجراءات التي رافقت التحضير لموازنة عام 2020، وصولاً الى الورقة الاقتصادية التي انتهى اليها لقاء بعبدا الاقتصادي، والتي بقيت حبراً على ورق، الى أن قادت السياسات الحكومية الرعناء الى الانفجار الشعبي لمجرّد الوصول الى سَحب ما في جيوب الناس من دولارات، في وقت شَحّت العملة الخضراء وباتت نادرة الوجود.
قبل أن يصل الموفد الفرنسي الى بيروت، أكّد ديبلوماسيون أوروبيون معنيون بالزيارة انّ السفير فارنو سينطلق في رسالته التي يحملها الى اللبنانيين من خلفيات واضحة وصريحة. فهو يمتلك الكثير من المعلومات عن «الخزَعبلات» اللبنانية التي اكتشفها دوكان وعَمّمها على كبار المسؤولين الفرنسيين، وهي تحوي معطيات تَمسّ الكثير من الملفات الكبرى التي شَدّد الفرنسيون، ومعهم العالم أجمع، على ضرورة معالجتها، ولاسيما ملف الكهرباء الذي يستهلك النسبة الكبرى من العجز والدين العام. أضِف الى ذلك طريقة التعامل مع حجم الإدارة العامة، وما بَلغه الدين العام، وكيفية التخفيف من كلفته. فلدى الديبلوماسيين الفرنسيين وزملاء لهم ما يقود الى ما يؤكّد استعدادهم ليُقدِموا حيث لا يجرؤ الآخرون. فمعلوماتهم تدفع الى فتح الكثير من الملفات القضائية التي لم يلامسها القضاء بعد، فهو يبحث في الجوارير القديمة ولأسباب معروفة سلفاً.