على رغم التصرّف السلمي والحضاري، يخشى الكثير من أركان السلطة أن يقوم المنتفضون بإزاحتهم عن مواقعهم، ثم محاسبتهم واستعادة الأموال المنهوبة.
وهذا شرُّ البليَّة لهم. والحاجة إلى هذه الأموال تزداد إلحاحاً مع انزلاق لبنان السريع في مسار الانهيار الاقتصادي والمالي.
إذاً، التحصينات التي يقيمها أركان السلطة في محيط مراكزهم تعبِّر رمزياً عن نوعين من التحصينات يقيمونها لحماية أنفسهم من السقوط والمحاسبة، وهما:
1- على المستوى السياسي، عدم مغادرة السلطة ولو كلّف ذلك دخول البلد في المجهول. ويُترجَم ذلك بالمماطلة في إجراء الاستشارات النيابية، وإلهاء الرأي العام بالسيناريوات المتناقضة حول شكل الحكومة المقبلة.
وأما الإيحاء بالموافقة على حكومة تكنوقراط، فهو أمرٌ ملغوم، لأنّ المقصود هو تأليف حكومة من «أشباه التكنوقراط»، العاملين في مجالات معينة، ويتمّ تصويرهم وكأنّهم جاؤوا لإنقاذ البلد، فيما هم تابعون تماماً لقوى السلطة الحالية ولا يتصرّفون إلا بتعليماتها.
وطبعاً، المهمّة الأساسية التي سيكلَّفون بها هي عدم فتح الملفات السابقة، كلٌ في نطاق وزارته. فليس معقولاً أن يفتح أزلام الطاقم السلطوي ملفات الفساد له!
2- استتباعاً، على المستوى القضائي، هاجس قوى السلطة أن تبقى كل آليات المراقبة والمحاسبة والتدقيق معطَّلة، ما يعوق الكشف عن ملفات الفساد والنهب السابقة والحالية. وحتى الآن، هي تطلق الوعود بقوانين للشفافية ومحاربة الفساد، علماً أنّ القوانين الموجودة لهذه الغاية مدروسةٌ لتبقى قاصرة عن تحقيق الهدف. والناس يعرفون جيداً أين هو الفساد، ومَن هو الفاسد.
ويجري في الأوساط الداعمة للانتفاضة، تداول ما يأتي: إنّ إحالة الملفات تتمّ اليوم استنسابياً، بهدف إطفاء الملفات كلها، وليس العكس.
فقد جرى استدعاء ثلاثة أشخاص للاستماع، هم: الرئيس فؤاد السنيورة في ملف الـ11 مليار دولار «المفقودة»، ووزيرا الاتصالات في الحكومة المستقيلة محمد شقير وفي الحكومة السابقة جمال الجراح، وجرى الادّعاء على رابعٍ هو رئيس مصلحة سلامة الطيران المدني عمر قدوحة بجرم الاختلاس.
وواضح أنّ الاختيار وقع على 4 مسؤولين ينتمون إلى الطائفة السنّية واتجاهٍ سياسي واحد. ويُراد من ذلك الإيحاء وكأنّ حملة المحاسبة قد بدأت، فيما حقيقة الأمر هو الضغط على الحريري سياسياً واستفزاز الشارع السنّي في محاولة لشقّ الحراك على أسس طائفية ومذهبية.
وفي الموازاة، إنّ الاستمرار في عدم تحديد موعد للاستشارات النيابية الملزمة، على رغم مرور 10 أيام على استقالة الحريري، يوحي للبيئة السنّية أيضاً أن لا قيمة لموقف الحريري.
وكذلك، ربط مسألة ترؤس الحريري للحكومة المقبلة بوجود الوزير جبران باسيل فيها، أي إنزال رئيس الحكومة من كونه أحد أركان «ثلاثي الحكم» إلى كونه «الوزير الأول» لا أكثر. وهذا الأمر يمكن تصنيفه أيضاً في سياق استفزاز السنّة لفكّ ارتباطها بالانتفاضة، والقضاء على مشهد طرابلس وصيدا.
إذاً، كيف يمكن للانتفاضة أن تحوِّل هذه المناورات وعمليات الخداع إلى انتصار؟
الورقة الرابحة اليوم هي الآتية: أن تستغل الانتفاضة هذا الحراك القضائي، ولو زائفاً، وتحويله حراكاً جدّياً لا مناص منه. وأن يعلن المنتفضون جميعاً، بكل مكوِّناتهم الطائفية والمذهبية والسياسية، تشجيعهم فتح الملفات التي تناور السلطة بها، وأن تدفع باتجاه التعمّق بكل منها، أياً يكن صاحبها.
فإذا تخاذلت السلطة يصبح بالإمكان كشفها وإحراجها وإجبارها على المضي في الملفات حتى النهاية. وفي الأيام الأخيرة، ظهرت تسريبات مهمَّة لفضائح في عدد من مرافق الدولة.
إذاً، يمكن للانتفاضة أن تفتح هي ملفات الفساد الأخرى وتكشف عنها إعلامياً بالوقائع والأرقام. وهي كثيرة جداً. والقوى السياسية نفسها فضحت نفسها مراراً عندما كانت تتصارع على المواقع والحصص والأرباح، ولا يحتاج الأمر إلّا إلى مراجعة الأرشيف والوثائق واستدعاء الجميع.
فإذا انفتحت ملفات السنيورة والآخرين جدّياً، ستكون السلطة مجبرة على فتح الملفات الأخرى كلها. وعندئذٍ، تكون الانتفاضة هي المستفيد الوحيد.
يمكن للانتفاضة، باستخدام ورقة ملفات الفساد، أن تحقق إنجازات هائلة. وإذا أدركت كيف تتعامل مع الملفات المفتوحة اليوم وحوَّلتها إلى «تسونامي» يجرف الفاسدين جميعاً، فسيكون انتصارها عظيماً. وستقع قوى السلطة في الفخّ الذي نصبته للانتفاضة.
ويمكن للانتفاضة، التي باتت اليوم حاضرة على أبواب المؤسسات، ولاسيما قصور العدل، أن تمارس «الرقابة الميدانية»، وعلى الأقل أن تحقق الكثير من أهدافها، بلا أثمان تُذكَر. ففي هذا المجال، لا يمكن لأحد أن يُطلق عليها أي اتهام، لا بممارسة السلوك الميليشيوي ولا بالاستماع إلى السفارات. إنّها النظافة فقط. وبها يمكن الوصول إلى الأهداف بسهولة.
فقط، هنا، تجدر العودة إلى ما كتبه الرئيس سامي الصلح، عام 1968، في مقدمة مذكراته، وهو يخاطب الشباب اللبناني: «أخاف عليكم من الأعظم... إنّ أصغر إنجاز حاولتُ تحقيقه لمصلحة الشعب كان يكلّفني مواجهة ضارية مع الأنانية والطغمة المالية التي كانت تتحكّم برجال السلطة… أدعوكم إلى الثورة ورص الصفوف. بالفعل لا بالتنظير. فالله لا يُغيِّرما بقوم حتى يغيِّروا ما بأنفسهم».