من النادر أن يجمع المراقبون المحليون والأجانب على توصيف واحد للأحداث التي يشهدها لبنان من وقت لآخر، اياً تكن المحاور التي تنضوي تحتها بلدانهم. فقد اثبتت التجارب السابقة وجود نظرة مختلفة الى حدٍ كبير بين الفريقين في الكثير من المحطات السياسية والأمنية التي شهدتها البلاد، خصوصاً في العقدين الأخيرين، وقيست مواقفهما طيلة تلك المرحلة على قياس المواقف اللبنانية المفروزة بين هذا الطرف او ذاك، على خلفيات سياسية وحزبية وربما طائفية في مرحلة من المراحل.
لذلك، قد تكون المرة الأولى التي يفتقد فيها الديبلوماسيون من عرب وغربيين، كما اللبنانيين، بوصلة الأحداث التي تقود الى توقّع الخطوات المقبلة. وهو أمر يعود الى أكثر من سبب.
فعملية خلط الأوراق التي تسببت بها الإنتفاضة الشعبية تحتاج الى وقت لبلورة الخطوات المقبلة، خصوصاً أنّ هناك معادلات بُنيت من جديد بعدما استحضرت تجارب سابقة تعزز المواجهة بين الفرقاء، خصوصاً بين الحريري وحلفائه المتردّدين من جهة، والثنائي المتضامن في الخطوات لمواجهة الإنتفاضة وتفكيكها واستيعابها متمثلاً برئيس الجمهورية ومعه قيادة «التيار الوطني الحر» و«حزب الله».
فمنذ السابع عشر من تشرين الأول الماضي، تاريخ اندلاع الإنتفاضة، برزت الخطوات التنسيقية الأكثر انسجاماً بين بعبدا والضاحية الجنوبية، فهما استشعرا مخاطر جمّة، لم يكن قادة الحراك المدني ومعهم من اندفع تاركاً انتماءه الحزبي جانباً، معنيين بها الى حدٍ بعيد. فسعى الفريق الحاكم الى تشويه الإنتفاضة وشيطنتها من أجل تكبير مخاطرها على تركيبة السلطة وتعزيز فرض شد أزر الشوارع المتنازعة بغية إمرارها دون ان تؤدي اغراضها.
فقد كان واضحاً أنّ السلطة لا تستطيع أن تواجه حراكاً شعبياً بهذا الحجم، ان بقي مسالماً معتمداً على الإرادة الشعبية الجامعة الموجوعة نتيجة سوء الأوضاع الإقتصادية والإجتماعية التي دفعت المواطنين الى الشوارع والساحات.
لذلك سعت الى توفير سبل الصمود الى ان يتعب المتظاهرون والمعتصمون أولاً، ولمّا تبيّن العكس لجأت السلطة الى استغلال بعض المظاهر التي تستفز مجموعات سياسية وحزبية، فتعدّدت الخروقات الأمنية الى حد يُنذر بمخاطر تهدّد وحدتها الطائفية والمذهبية، وتلاحقت المواجهات رفضاً للمس بهذا القائد أو ذاك، على قاعدة اتهامها بالشيطنة وممارسة الأفعال غيرالأخلاقية، لتبرير بعض الغزوات التي تعرّضت لها في صور والنبطية وساحتي رياض الصلح والشهداء.
ولمّا نجح هذا الأسلوب في زرع الشكوك بأهداف الحراك وغاياته، وعلى وقع الإتهامات باستغلال الشارع من قوة خارجية، انتقلت المواجهة الى تكبير المخاطر الناجمة عن قطع الطرق وتأثير ذلك على القطاعات التموينية، فجرى التهديد باستحداث أزمات البنزين والخبز وصولاً الى ندرة الأدوية والمواد الغذائية التي تأثرت بفقدان الدولار المطلوب بسعر مستقر، لمدّ هذه القطاعات بما يجب استيراده من الخارج وليس بسبب الإنتفاضة.
عبرت كل هذه المراحل برأي أهل السلطة، ويعتقدون أنّهم نجحوا في أمرين: إعادة فتح الطرق غصباً عن رغبة المنتفضين، وبدء الحوار من اجل تشكيل الحكومة الجديدة، فانتقلت المواجهة الى المجال السياسي، وبرز الخلاف الكبير بين أهل السلطة وتحديداً مع الرئيس المستقيل سعد الحريري، وبدأت المناكفات على قاعدة اتهامه بمحاولة استغلال الحراك لفرض إرادته على التركيبة الحكومية الجديدة، فبدأ مشوار التكليف، مبنياً على قاعدة تستحضر التجارب السابقة مع الحريري وليس على اساس ما فرضته الانتفاضة من شروط جديدة.
ولذلك استُحضرت كل السوابق التي ادّت الى تأخير المراحل الدستورية التي تلي الإستقالة. فقيل انّ الرئيس السابق ميشال سليمان بقي عام 2013 ثلاثة اسابيع لتكليف الرئيس تمام سلام تشكيل الحكومة، وقبله وبعده امضى رئيس الجمهورية فترات متشابهة من أجل إنجاز الإستحقاق. وكل ذلك من أجل تبرير ما هو مطلوب من الحريري. فليست المرة الأولى التي سعى فيها بعض اركان السلطة الى تسوية سياسية جديدة تتجاوز الكثير من الحقائق الجديدة على قاعدة وجود مجموعة من الأقوياء يمكنهم في حال تفاهمهم أن يحكموا بطريقة تخرج عن الأصول الدستورية بكفالة التضامن الحكومي فتسقط كل محاولات الإضاءة عليها.
وهنا برزت مسألة الربط بين مسيرتي التكليف والتأليف رغم الفصل الدستوري بينهما. فالسعي اليوم الى تشكيل الحكومة بتوازناتها وتركيبتها السياسية وعملية توزيع الحصص والحقائب تتقدّم على التكليف. فإن جرى التفاهم عليها مسبقاً يُصار الى التكليف الذي يحوّل الرئيس المكلف الى «رجل آلي» سياسي، يمشي الخطوات المرسومة سلفاً في ظل تفاهم الأقوياء، فينساق الى تنفيذ خريطة طريق مرسومة سلفاً، لا يجادل فيها ولا يناقش إلّا في الشكل في ما سيقترحه من تشكيلة حكومية بكامل مواصفاتها السياسية، سواء كانت من التكنوقراط او السياسيين او تكنو - سياسية، فالأمر مرهون الى حد بعيد بتفاهم سياسي جديد قد يتجاوز مطالب الإنتفاضة او يقارب مطالبها بالشكل، وان اعترضت ستجد أمامها سداً منيعاً من اهل السلطة الجديدة دون التكهن من اليوم بما يمكن ان تقوم به. فبعض اركان السلطة لا يرغب في إعطاء هذه الانتفاضة أي انجاز مهما بلغ حجمها، بل يستعد لمواجهة تركيبة سياسية البسها للانتفاضة، وربما تركيبة خارجية تقود مؤامرة على لبنان واللبنانيين.
لذلك كله، وبمعزل عن بعض التفاصيل، يبدو جلياً انّ الحريري اقترب من ان يفهم إن كُلّف مهمة تشكيل الحكومة، وطالما سيكون له متسع من الوقت لتشكيلها، فليس هناك اي مهلة محددة مهما طال الزمن، كما جرى معه في استحقاقات سابقة، فإنّه ليس أمام رئيس الجمهورية ومن يدعمه أي مهلة للتكليف. ولذلك فليس هناك سوى الزمن من يحلّ هذه المعادلة المحكومة بالكثير من شياطين التفاصيل، الى مرحلة لا يمكن لأحد التكهن بما يمكن ان تمتد وتؤول اليه عملية التكليف.