المسؤولون في لبنان والعراق يحذرون المحتجين من الوقوع في “الفراغ الدستوري” بوصفه البعبع الذي يجب أن يخافوا منه.
عادل عبدالمهدي لم يتردد في تقديمه وكأنه “السعلوة” التي يجب أن يتّقيها المتظاهرون. وفعل الرئيس ميشال عون وحسن نصرالله الشيء نفسه.
ولكن كم هو مخيف فعلا هذا البعبع؟ فعندما تكون إزاء “دولة فاشلة” كالعراق أو لبنان، يجتاحها الفقر والمرض والعجز السياسي والانهيار الأمني، وتطفو فوق سلطتها سلطة الميليشيات، وتهيمن على اقتصادها مافيات الفساد والامتيازات الطائفية، وتتدخل في شؤونها أطراف خارجية، فماذا بقي من الفشل لكي تخاف عليه من “الفراغ الدستوري”؟
هذا الفراغ يعني، في أحد معانيه، انهيار قيادة الدولة. ولكن هل توجد في العراق دولة من الأساس، أم مجرد عصابات قامت بنهب الدولة وتفريغها من كل محتوى جدير بالاحترام؟ وحيال الجرائم والانتهاكات التي ظلت ترتكب على امتداد كل سنوات الحكم ما بعد العام 2003، فكم بقي من الدستور؟ وهل راعت الميليشيات حرمات القانون فيه؟
العراقيون واللبنانيون إذ يطالبون بتغيير النظام، فلأنهم يعرفون أنه أسس لدولة الفساد، وأنه زعزع الاستقرار، وأقام نظاما يتسلط عليه الرعاع ورعاعهم وما أكل السبع. وهم من فساد فسادهم صاروا حراما على الحرام نفسه، كمثل الأسلحة المحرم استخدامها ضد المتظاهرين قبل أن يظهر أنها هي ذاتها فاسدة. وكمثل الفاسدين الذين صاروا يدعون لمكافحة الفساد، وكمثل اللصوص الذين صاروا يدافعون عن “دولة القانون”.
وخذ مثلا للمخيف في “الفراغ الدستوري”: فلو قرّر عبدالمهدي أن يرمي نفسه من الطابق العاشر، ولو أخذ ميشال عون إجازة مفتوحة من قصر بعبدا، أو سقط في بالوعة ولم يخرج، فما الذي سوف يزيد أو ينقص حقا؟
واقع الفشل الذي يدفع الملايين للاحتجاج، يعني أن طاقم “الامتلاء الدستوري” فارغ من كل معنى، ولا يملأ ثقبا في جدار أي أزمة. بل إنه هو نفسه مصدر للأزمات، حتى بلغ الاختناق بالناس أن يتظاهروا ليتحدّوا ما يفرضه عليهم من فقر وأعمال قتل واغتيالات. والناس إذ يطالبون بإسقاط النظام، فهم يقصدونه بكل ما فيه، من قادة ومافيات وميليشيات وحكومة ودستور، على حد سواء.
ولو قيل إن ذلك مدخل للفوضى، فهل هناك، على وجه الحقيقة، أسوأ من فوضاهم؟ وهل كنا سوف ننتهي إلى ما نحن فيه لو لم تتسلط فوضى الفساد على كل مرفق من مرافق الحياة؟
ولقد رأى العراقيون واللبنانيون العجب العجاب منذ أن تصدر الطائفيون المشهد، حروبا أهلية، ونزاعات دموية، وانهيارات دفعت البنى التحتية إلى الخراب، وارتفعت القمامة جبالا أعلى من هامات النظام. فإذا كان ذلك كله ناتجا عن “الامتلاء الدستوري” فمن ذا الذي يجب أن يُخيفه الفراغ؟
الشعب الذي يريد إسقاط النظام، إنما يريد بعبارة أخرى إسقاط الفراغ الأخلاقي الذي أوجدته تلك المافيات والميليشيات، وأن يوقف الفوضى ويضع نهاية للعبث بمصائر الناس. وهو إذ يطالب بدستور جديد، وسلطة منتخبة على أسس جديدة، فلأنه ضاق ذرعا بكل من ظلّوا يملأون الفراغ بالفساد، ويحشون جيوبهم بالمال العام المنهوب، ويصرّفون شؤون الدولة بالتشاور مع أطراف لا يحق لها التدخل في شؤون الغير.
ولو كان ثمة دستور، لا خرقة ممسحة يتمسح بها علي خامنئي وقاسم سليماني، ما كان ليتقرر مصير حكومة العراق أو لبنان، في مشاورات يجريها هذان مع متردّيهم ونطائحهم هنا وهناك.
ولكن عندما يبلغ انعدام الدستور مبلغ انعدام الحياء، فليس من المستغرب أن يصبح “الفراغ الدستوري” بعبعا لإخافة الناس.
الخائفون من الفراغ هم أنفسهم الذين صنعوه. وهم لا يريدون لفسادهم أن ينقضي أو أن يوضع له حد. وهم يتذرّعون به لكي يحافظوا على سلطة الفشل التي قادوها إلى الهاوية. فلمّا ضجّ الناس به وبهم، تذرّعوا بالفراغ لكي يحميهم من الناس.
شوفوا بعبعا آخر. هذه “السعلوة” لا تخيف أحدا ممّن يواجهون الرصاص.