هزيمة الطبقة السياسية الحاكمة في بغداد ممكنة غير أنها مسألة وقت. ذلك ما وطد عزم الشباب المحتجين على الصمود من أجل تحقيقها.
صحيح أن منطقة الحكم صارت محاصرة ولا يمكن فك ذلك الحصار، إلا عن طريق القتل، وهو ما لم تتورّع أجهزة الحكم المسلحة عن القيام به، غير أن الصحيح أيضا أن إيران وهي الراعية للنظام لا تزال تملك تقنيات خبيثة ستحاول من خلالها اختراق التظاهرات وتدميرها من الداخل.
العداء بين المحتجين وإيران صار معلنا وتجاوز مسألة الاحتجاج على بقاء النظام، الذي هو وكيل إيران في الداخل العراقي.
كان المحتجون أذكياء في معالجة ذلك العداء، فهم لم يرفعوا شعارات عنصرية كما كان يجري في السابق بل تقيدت شعاراتهم بالطابع السياسي، بعيدا عن تهريج يذهب بالعداء إلى جذور تاريخية ليست ساحات الاحتجاج مكانا لها.
ذلك ما أزعج أركان النظام الإيراني وفي مقدمتهم خامنئي وجعلهم يشعرون أنهم يقفون في مواجهة وعي جديد بالقضية العراقية. ذلك الوعي الذي تميز بصفائه وخلوّه من البعدين الطائفي والعرقي. العراقيون اليوم لا يعالجون مسألة حريتهم انطلاقا من كراهية عرقية أو طائفية بل المسألة أعمق من ذلك وأكثر شمولية واتساعا.
بالنسبة للشباب الذين خرجوا إلى الشوارع محتجين لا تعنيهم هوية المحتل العرقية والطائفية لذلك خلت شعاراتهم من كلمات من نوع “فرس” و”مجوس” وسواهما من المفردات التي تنتمي إلى قاموس لم يعد قيد التداول وصار جزءا من ماضي التاريخ السياسي.
ليس هناك ما يؤاخذ عليه المحتجون من جهة الطبقة السياسية الحاكمة في العراق على مستوى خطابهم السياسي. فهم ليسوا ضد حكم الأغلبية السياسية وهم ليسوا ضد النظام الديمقراطي المقيد بالدستور وهم أيضا ليسوا ضد إقامة علاقات احترام تعاون مع جيران العراق وبضمنهم إيران.
ذلك كله يعني أن المحتجين يسعون إلى استعادة وطنهم من خلال تحريره من التلفيق الطائفي الذي وضعه تحت السيادة الإيرانية. فبعد أن كشفت الأحزاب الدينية عن ولائها الكامل لإيران وتبعيتها للولي الفقيه، لم يعد الحديث عن الأغلبية الطائفية إلا نوعا من الرياء، الذي يُراد من خلاله فرض الهيمنة الإيرانية بحيث تكون أمرا واقعا.
وإذا ما كان المتظاهرون منذ اليوم الأول قد أسقطوا من اعتبارهم الدولة الطائفية، فإنهم اختصروا الطريق ليتوجهوا إلى إيران باعتبارها الراعي الرسمي لتلك الدولة. وهم في ذلك قد اخترقوا كل الخطوط الحمراء ليصلوا إلى الخط الأخير، الذي لا تزال الطبقة السياسية في العراق تعتقد أنه سدها الأخير إذا ما تعرضت للخطر.
ذهب المحتجون في ثورة تشرين/أكتوبر أبعد مما كان يتخيل السياسيون العراقيون أن يصل إليه الشعب العراقي. ذلك لأن المنتفضين الشباب لا يمكنهم اليوم قبول الإصلاحات الحكومية ولا حتى استقالة الحكومة، بقدر ما يفكرون بإنهاء النظام السياسي القائم على التبعية للوصاية الإيرانية.
وصف خامنئي ما يحدث في العراق بأنه أحداث شغب وهو يعرف جيدا أن كلامه لا يحمل ذرة من الصدق. ربما كان عليه أن يبحث عن الوسيلة، التي تمكنه من إجراء مفاوضات مع المحتجين، كونه كان مقصودا شخصيا بالاحتجاجات. سيضطر للقيام بذلك بعد أن يتأكد أن الوسائل التي سيلجأ إليها تابعوه لن تجدي نفعا في إخماد نار الغضب العراقي بل ستزيدها اشتعالا.
ليس من نهاية للنظام الطائفي القائم في العراق إلا بعد أن تقتنع إيران أن نفوذها في العراق لم يعد له غطاء محلي. ذلك ما ينشده الثوار السلميّون الذين يشعرون أن هزيمة الطبقة السياسية ليست سوى مسألة وقت.
ستسعى إيران إلى إنقاذ وضعها في العراق وستفشل في مسعاها. ذلك لأنها تفكر في إنقاذ الطبقة السياسية لتنقذ مشروعها. ذلك خطأ ستدفع ثمنه في مستقبل علاقتها بالعراق.