منذ ثلاثون عاماً، وكلُّ شيءٍ يذكرنا بما كتبه "عبد الرحمن الكواكبي في كتابه : طبائع الإستبداد" بقوله: (إنَّ العوام هم قوت المستبد وقوته، بهم عليهم يصول، وبهم على غيرهم يطول، يأسرهم فيُهلِّلون لشوكته، ويغتصب أموالهم فيحمدونه على بقاء الحياة، ويهينهم فيثنون على رفعته، ويغري بعضهم ببعض فيفتخرون بسياسته، إذا أسرف بأموالهم يقولون عنه كريم، وإذا قتل ولم يُمثِّل يعتبرونه رحيماً، ويسوقهم إلى خطر الموت فيطيعونه حذر التأديب، وإن نقم عليه منهم بعض الأباة قاتلهم كأنهم بغاة..)
في لبنان خرجت فئة من الأباة ونسفت ما قاله "الكواكبي" ورفعت شعارات قلبت الموازين السياسية والإجتماعية والفكرية، رأساً على عقب، كيف حدث ذلك؟ باختصار:
1 ـ على الصعيد السياسي: وضعت السلطة موضع المحاسبة والمساءلة، وإعادة المال المنهوب، وكشفت عن الخلفية الصائبة للنظام، من يحكم، وكيف يحكم، ومسؤوليات الحاكم، وواجبات الشعب؟.
2 ـ على الصعيد الإجتماعي: خلقت أسساً جديدة للولاء والإنتماء، للوطن وللدولة، وأسقطت كل الولاءات القبلية والطائفية والحزبية على حساب الوطن والدولة، وحطَّمت حاجز الخوف بين المظلوم وظالمه، وبين العبيد والأسياد، حيث انتشر الفساد، والرشوة، والغش، والظلم، وعدم تكافئ الفرص، بحيث تحكمت هذه السلطة بمصائر الناس، واحتكرت أرزاقهم، وتلاعبت بمقدراتهم الحياتية والمعيشية، وعدم المساواة التي تضمن لكل فردٍ حقه في العيش والتعليم والتطبيب والراحة والعمل والوظيفة، فحولوا الدولة إلى مغانم خاصة لهم ولأحزابهم..
3 ـ على الصعيد الفكري: نسفت كل التراكيب والشعارات التي كانت تشكل العمود الفكري للتفكير والفكر،فكشفت عن الهوى والحفر التي حفرت في عقولهم، واسقطتهم في عمقها، فبدأت تبحث عن الهوية الجديدة، التي تجعل لهم حياة أفضل تضمن لهم العيش بكرامة، وهي التي نسميها بمرحلة فتح" العيون والعقول" على بطلان الأفكار المطلاة ببناء الدولة.
هذه الشعارات تعلمتها في مدرسة الإمام الصدر التي تستمد تعاليمها من مدرسة أهل البيت (ع)، ووصاياهم، "كونا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً" والإمام الصدر الذي أقسم بأنه سيقف مع كل مظلومٍ في لبنان، وأنه سيدافع عنه ويحميه بجبته وعمامته، وأنه لا يسكت على ضيمٍ حتى لا يصبح ظالماً، وكان أول من نادى بأنَّ الطائفية نقمة، وبأن الدولة المدنية العادلة هي التي تحمي شعبها ومواطنيها، فلا الأحزاب ولا الطوائف هي من تحميكم، فقط هي الدولة العادلة، ونادى ببناء مجتمع يتعاون جميع أفراده تعاوناً أخوياً بنكران الذات على العمل لصالح الجميع، وكتب على مداخل أبواب الوطنية والعروبة: لا لبقاء محرومٍ في أرضه، لا لدولة المزرعة والمزارع الجديدة، لا لجنوبٍ يبقى متاعاً ودول ضاحكة مستبشرة، لقد راهن الإمام الصدر على حركةٍ وطنيةٍ مفطومة عن الطوائف وذهنيات المذاهب، ومشبَّعة بروح الديمقراطية والعَلمنة المؤمنة بوطنٍ يتساوى فيه المواطنون في الحقوق والواجبات، وتمارس فيه الخصوصيات، وتستقيم فيه المعايير القانونية والدستورية..