الانتفاضةُ، بنُسختِها الأصيلة ـــ لا بما عَلِقَ بها وتَعلَّقَ عليها ـــ هي بَذرةٌ وَقعت في أرضٍ خَصْبة. وإذِ اختَفت تحتَ الترابِ فلِتَنبُتَ سريعًا شَتْلةً نَقطِفُ زهورَها، أو لاحقًا شَجرةً نأكلُ ثمارَها. التاريخُ خَزنةٌ تَحفَظ حركةَ الشعوبِ، تُنقّيها من الموْروثاتِ الـمُعاقةِ والـمُعيقة، وتُطلِقُها بهيّةً، ساحِرةً، دافِقةً في المجتمعِ. ومهما حوّلوا الانتفاضةَ فِتنةً ستبقى فاتِنةً، وكالطبيعةِ تَغسِلُ ذاتَها بذاتِها.
ما يجري هو تحوّلٌ بُنيويٌّ في مسارِ وجودِنا الوطنيّ والنَفسانيّ. التغييرُ الجذريُّ في الدولةِ قد لا يَتحقّقُ الآن، لكنه سيَتحقّقُ في الإنسان والمجتمع. الباقي تفاصيل ومسألةُ وقتٍ. المهمُّ أن تبقى هذه الوِحدةُ الوطنيّةُ المدنيّةُ حيّةً حتى نهايةِ الانتفاضةِ وما بعدَها.
أكثرُ من مكافحةِ الفساد، وِحدةُ اللبنانيّين الجُدد هي المعيارُ الذي على أساسِه تَدخلُ هذه الانتفاضةُ أو لا تَدخُل التاريخ. فإذا انقسم اللبنانيّون مُجدَّدًا بعد هذه الانتفاضةِ الاستثنائيّة، تكون وِحدتُهم لقاءَ أيامٍ في الشارعٍ لا لقاءَ مصيرٍ في التاريخ.
بعيدًا من المطالبِ الاجتماعيّةِ والمعيشيّةِ التي رَفعتها الانتفاضة، الشعبُ اللبنانيُّ قَرّر أخيرًا رفعَ السِرَّيةِ الزمنيّةِ عن الحروبِ وإغلاقَ حسابِاتها، والانتقالَ التنفيذيَّ من مرحلةِ «ما بعدَ الحروبِ» إلى حياةٍ وطنيّةٍ طبيعيّة.
هذا هو المعنى العميقُ للانتفاضةِ الأصيلة. وجميعُ الـمَطالبِ تُختصَر أصلًا بعبارةٍ: «نريد حياةً طبيعيّة». المرحلةُ السابقةُ كانت مساكنةً بين آثارِ الحروبِ المتراكِـمـةِ وبين ملامحِ حياةٍ جديدةٍ غامضةِ الشخصيّة.
حياةٌ رَماديّةٌ بين السلامِ والأمن، بين الاضطرابِ والاستقرار، بين الازدهارِ والانكماش، بين الوِحدةِ والانقسام، وبين الدولةِ والدويلات. في ضميرِ المنتَفِضين، الواعي والمستَتِر، ثورةٌ على الموقَّتِ والحيرةِ والانفصام. يريدون الاستقرارَ والوضوحَ بالمعنى المصيريِّ لا اليوميّ.
يُثير القلقَ والخوفَ تأخّرُ انتقالِ لبنان نهائيًّا إلى «الدولةِ الطبيعيّة» رغمَ الحلولِ الدستوريّةِ والتسوياتِ السياسيّةِ وخروجِ المحتلّين. فالـــ»حالةُ الموقّتةُ»، وعُمْرُها أربعٌ وأربعون سنةً، تُهدِّد «الوطنَ النهائي». يَخشى اللبنانيّون أنْ يعودَ هذا التأخيرُ إلى وجودِ مشاريعَ تأسيسيّةٍ تَنتظرُ ظروفًا معيّنةً لتَنقَضَّ على الحالةِ اللبنانيّةِ وتُغيّرَ هويّةَ الوطنِ وخصوصيّتَه. هناك مَن يَعْتني بالتوتّرِ ويَرْويه ليُبقي جميعَ الِخياراتِ الكيانيّةِ مفتوحةً أمامه. وإلّا لِـمَ إبقاءُ لبنان في سلامٍ ناقصٍ ومصيرٍ ملتبِس؟
انتهت الحربُ العالميّةُ الثانيةُ سنةَ 1945، لكنَّ النمسا لم تتأكّد أنها خَرجت فعليًّا منها إلّا بعدَ اعتمادِها الحيادَ سنةَ 1955 واستبدالِ أباطرةِ هابسبورغ Habsbourg بسِمفونيّات آل شتراوس Strauss، وفرنسا إلّا بعد إقرارِ الجمُهوريّةِ الخامسةِ سنةَ 1958، والولاياتِ المتّحدةَ الأميركيّةَ إلا بعد إزالةِ التمييزِ العُنصريِّ سنةَ 1964، وألمانيا إلّا بعدَ استعادةِ وِحدتِها سنةَ 1990 إثرَ سقوطِ حائطِ برلين.
حتى بريطانيا، الدولةُ العظمى، انتفَضت سنةَ 2016 على عُضويّتِها في الاتّحادِ الأوروبيّ لأنّها لَـمَست وجودَ التباسٍ وضبابيّةٍ في موقِعها الناقص في الاتّحاد، وقرّرت استعادةَ وضوحِ مصيرها كجزيرةٍ (البريكسِت).
متى، نحن اللبنانيّين، نَلِجُ هذه الحالةَ النهائيّةَ ونَدخلُ الحياةَ الطبيعية؟ متى ننزعُ وَلاءاتنا الخارجيّةَ ونؤمن بلبنان فقط؟ متى نُحدّدُ دورَنا وموقِعَنا الثابتَين؟ متى نختارُ حلفاءَنا وأصدقاءَنا ونَرسُمُ سياستَنا الخارجيّة؟ متى نَستأذِنُ من صراعاتِ الشرقِ الأوسط ونَستقرُّ في سلامٍ يَحمينا وتَحميه دولةٌ قويّة؟
متى نَخرجُ من «حربِ السنتين» وصراعِ الهويّاتِ والقوميّات، من الدستورِ الإشكاليِّ والميثاقِ الغامض، من حروبِ الثمانيناتِ والتسعيناتِ وحربِ 2006، ومن سائرِ معاركِ الاجتياحِ والعِصيان؟ الجروحُ لا تزال مفتوحةً وبعضُها يَسيل. كلُّ ريحٍ قادرةٌ أن تُشعِلَ جُذوةَ الجَـمْرِ المتحفِّزةَ في الموقِدِ اللبنانّي.
أَخذَ الشعبُ عِلمًا شَفويًّا وخَطِّـــيًا بانتهاءِ الحرب، لكنّه لَم يرَ السلام. أَخذَ الشعبُ عِلمًا شَفويًّا وخَطِّـــيًا بانتهاءِ الميليشيات، لكنّه لم يرَ الجمُهوريّة. أزَفّوا إليه هِلالَ جمُهوريّةٍ ثانيةٍ، ثمَّ ثالثةٍ، ولمّا ذَهبَ يَستقبِلُهما وَجدَهُما قبيلةً أولى وعشيرةً ثانيةً لا تكفي حتّى «أهراءُ روما» إشباعَ عوائلهما...
لا يستطيعُ شعبٌ أنْ يعيشَ وهو على موعِدٍ دائمٍ مع حربٍ جديدةٍ وأزمةٍ جديدة.
لا يستطيعُ شعبٌ أنْ يعيشَ رهنَ التوقيفِ الاحتياطيِّ: لا سجينًا ولا حرًّا.
لا يستطيعُ شعبٌ أنْ يعيشَ في مجتمعٍ مخطوفٍ ومصادَرٍ بالقوّة.
لا يستطيعُ شعبٌ أنْ يعيشَ في دولةٍ لا تريد أنْ تُصدِّقَ أنّها تَحرَّرت، وتَتصرّفُ كأنّها ما زالت محتلَّة.
لا يستطيعُ شعبٌ أنْ يعيشَ على وقْعِ فارقِ الوقتِ بين لبنانَ وبلادِ الانتشارِ حيثُ فِلْذاتُ الأكباد.
لا يستطيعُ شعبٌ أنْ يعيشَ في دولةٍ وَهَبت نفسَها للاغتصابِ فَفقَدت شرعيّتَها.
لا يستطيعُ شعبٌ أنْ يعيشَ والموقَّتُ هو دُستورُه الدائم.
لا يستطيعُ شعبٌ أنْ يعيشَ ويَسأل كلَّ يومٍ عن مصيرِ ليرتِه وأن يَتبنى عُملةً أجنبيّةً خِلافَ مفهومِ الاستقلال.
لا يستطيعُ شعبٌ أنْ يعيشَ ويَشعُر ـــ وهو يجتازُ المناطقَ ـــ أنّه يَعبُر مقاطعاتِ أمراءِ الحربِ لا أراضي الدولةِ اللبنانيّة.
لا يستطيعُ شعبٌ أنْ يعيشَ في حالةِ استنفارٍ دائمٍ بعضُه على البعضِ الآخَر.
لا يستطيعُ شعبٌ أنْ يعيشَ في مجتمعٍ لا يُخصِّصُ إعلامُه برامجَ للثقافةِ والموسيقى الكلاسيكيّةِ وللفنِّ الراقي.
لا يستطيعُ شعبٌ أنْ يعيشَ ويَطرَح كلَّ يومٍ مصيرَه ووجودَه ووِحدتَه ونظامَه وصيغتَه.
لا يستطيعُ شعبٌ أنْ يعيشَ حامِلًا بيدٍ حقيبةَ سفرٍ وبالأخرى منديلَ دموع.
لا يستطيعُ شعبٌ أنْ يعيشَ في دولةٍ تَتقبَّلُ تَعدُّدَ السلُطات غيرِ الشرعيّة.
لا يستطيعُ شعبٌ أنْ يعيشَ: هو على قارعةِ الطريقِ يَتسوّلُ عملًا، ووطنُه على قارعةِ التاريخِ يَستجدي موقِعًا.
إذا فَقَهت هذه الانتفاضةُ أبعادَها الوطنيّةَ والتاريخيّةَ، وتَعالت على المكاسبِ الآنيّة، ووَفّقت بين مثاليّةِ «الثورة» وخصوصيّةِ لبنان، ولم تَسقُط في لُعبةِ المناصبِ على غرارِ الطبقةِ السياسيّة، فإنّها تَنقُل لبنانَ من المرحليّةِ الوطنيّةِ إلى الاستقرارِ المصيري. هكذا تُنقِذُ نفسَها ولبنان ـــ وكلاهُما معرَّضٌ للخطر ـــ وتَلتقي مع إنجازِ الآباءِ والأجداد ويَشمُلها مجدُ لبنان.