قبل 17 تشرين، كانت الكارثة المالية وشيكة. ظهرت في الأفق مجموعة حقائق ومؤشرات أوحَت بأنّ إمكانات الصمود تتضاءل، في ظل حكومة غائبة عن الوعي، تدرك أنّ موازنتها تنصّ على سداد 5,5 مليارات دولار لخدمة الدين العام في العام 2020، وهي تبحث عن إيرادات تافهة، مرة في رأس النرجيلة، وأخرى في محادثة «الواتساب»...
قبل 17 تشرين، واجه الوضع المالي والاقتصادي الحقائق التالية:
1 - فقدان السيولة بالدولار في الاسواق، ونشوء السوق الموازي لدى الصيارفة. وفرضَ تسعيرتين لليرة، واحدة رسمية ثابتة، وأخرى فعلية متحركة. ومع الوقت، بدأ يتّضح انّ تسعيرة السوق السوداء تتحكّم بمفاصل الحياة اليومية وقدرات المواطن الشرائية.
2 - إتخاذ المصارف إجراءات داخلية للحدّ من تسرّب الدولار الى الخارج، وبات هناك سقوفات للسحب النقدي، وتعقيدات في التحاويل تهدف كلها الى خفض منسوب خروج الأموال من لبنان.
3 - لم تصدر الدولة خلال العام 2019 سندات دين جديدة، واضطر مصرف لبنان الى سداد استحقاقات السندات من احتياطه لتحاشي تنظيم إصدار قد يؤدي الى دفع فوائد مرتفعة تعطي إشارة سلبية الى الاسواق العالمية، وتعجّل في الانهيار.
4 - إرتفعت أسعار الفوائد في العام 2019 الى مستويات قياسية، وتبيّن أنّ كلفة جذب أموال بالعملة الصعبة لتغذية الاحتياطي في مصرف لبنان صارت مرتفعة جداً، ومع ذلك لا تجد إقبالاً عليها.
5 - نشأت أزمات استيراد المحروقات والطحين والدواء بسبب واقع التسعيرتين للدولار. وعلى رغم كل المعالجات التي قامت في حينه، يتبيّن اليوم انّ هذه الأزمات لا تزال قائمة، وقد تستفحِل في الايام القليلة المقبلة.
6 - تعرضت الودائع في المصارف الى موجات سحوبات وصلت حسب التقديرات الاولية الى حوالى 5 مليارات دولار في 6 أشهر. في المقابل، تراجع تدفّق الاموال المعتاد الى مستويات مقلقة جداً.
7 - جرى خفض تصنيف لبنان الائتماني الى (CCC) مع ما يعني ذلك من كلفة إضافية على المصارف، وفرملة لدخول أموال جديدة الى لبنان. وهو مؤشّر يعني مالياً انّ البلد اقترب من مرحلة الافلاس، وهذا ما يفسّر الارتفاع السريع والدراماتيكي في أسعار الفوائد.
8 - توقفت كل القروض المدعومة والتحفيزية، ما أدّى الى جمود تام في قطاع الاسكان وقطاعات أخرى. بالاضافة الى تقليص حجم التسهيلات والقروض الى القطاع الخاص، ما أدّى الى تقليص الاعمال، وفرض الجمود على النمو، وبدء مرحلة الانكماش في حجم الاقتصاد (GDP).
9 - تراجع دراماتيكي متواصل في أسعار السندات الدولارية، وارتفاع كلفة التأمين على هذه السندات (credit default swaps).
كل هذه الحقائق والمؤشرات كانت قائمة قبل 17 تشرين، في ظل استمرار التجاذبات داخل الحكومة في حينه، وخيبة أمل المندوب الفرنسي بيار دوكان المولَج متابعة مؤتمر «سيدر» لوضعه على سكة التنفيذ.
بعد 17 تشرين، وبعد حوالى أسبوعين من التظاهرات الشعبية، مع ما رافقها من مشاهد وحقائق أوحَت بوجود انقلاب في المزاج الشعبي حيال كل القيادات السياسية التي أثبتت فشلها في التصدّي لكارثة ظهرت مؤشّراتها بوضوح قبل 3 سنوات أو 4، لكنّ أحداً لم يَشأ أن يرى ويصدّق، استجَدّت على مستوى الوضع المالي والاقتصادي الحقائق والمؤشرات الاضافية التالية:
1 - توقفت محاولات إحياء «سيدر»، وبالتالي، لم يعد ممكناً حالياً على الأقل المراهنة على بدء تنفيذ مقررات الدعم للبنان، مع ما يعني ذلك من دعم معنوي كان سيؤدي الى استعادة بعض الثقة في الوضع، ويسمح باستئناف ضخ أموال استثمارية يحتاجها الاقتصاد لاستعادة دورته الانتاجية.
2 - زادت مساحة الاجراءات والقيود التي اضطرت المصارف الى فرضها لحماية الاموال، ومحاولة منع تسرّبها. كما تقلّصت التسهيلات الممنوحة للشركات والمؤسسات الى مستويات دنيا إضافية، بما يعني انّ الماكينة الاقتصادية في البلد أصبحت شبه مشلولة بالكامل. ونكون بذلك اقتربنا أكثر فأكثر من واقع أننا بتنا في دولة لديها مصروف كبير وليس لديها مدخول.
3 - تمّ إلغاء إصدار سندات يوروبوند كان مقرراً في تشرين الثاني الجاري، لتخفيف الضغط على مصرف لبنان وحماية ما تبقّى من الاحتياطي لديه للدفاع عن النقد، وبُغية التدخّل للانقاذ في اللحظات الحرجة. وسيضطرّ مصرف لبنان الى دفع استحقاق تشرين الثاني من صندوقه، وسنشهد نزفاً إضافياً للاحتياطي الذي لا كان يزال يحول حتى الآن دون إعلان الانهيار والافلاس.
4 - تعمقّت أزمة السوقَين للدولار، وهي مرشحة لتعقيدات اضافية في الايام المقبلة، خصوصاً اذا ما تبيّن أنه بات صعباً تنفيذ الحل الذي قضى بتأمين الدولار بالسعر الرسمي لاستيراد المحروقات والطحين والدواء.
5 - زاد منسوب القلق لدى أصحاب الرساميل، وهذا سيؤدّي الى ارتفاع محاولات إخراج الاموال من لبنان.
6 - إستخدم حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، للمرة الاولى، عبارة انهيار. وبعض الجهابذة فسّروا موقفه على أنه موقف سياسي. بعضهم اعتبره ضد الانتفاضة، وآخرون اعتبروه دعماً لها. وهو في الواقع، لا هذا ولا ذاك. ومن لا يزال يُغمض عينيه ويصمّ أذنيه عن ضجيج الكارثة الوشيكة، سيعرف ما ارتكبه جَهله لحظة وقوعها رسمياً.
في الخلاصة، وكما توحي المؤشرات السياسية الحالية، لا شيء يدعو الى التفاؤل. واذا لم يحصل «الانقلاب» المطلوب ويتغير المشهد السياسي رأساً على عقب، لجهة شكل الحكومة ونوعييتها، والسرعة التي ستتألف بها، سيواجه الناس والبلد الكأس المُرّة التي كان يتم تأجيل إعلانها من خلال دفع أسعار باهظة لشراء الوقت.