إختلفت القراءات حيال تريّث رئيس الجمهورية ميشال عون في تحديد مواعيد الاستشارات النيابية الملزمة، وكأنّ البلاد تعيش فترة من الرخاء. وفيما اعتبر البعض أنّ الرئيس عون تعامل مع استحقاق الاستقالة بـ«التقسيط» بدل توجيه الاتهام إليه بـ «الاستخفاف» في مرحلة بلغت خطورتها كلّ السقوف الممكنة، فيما اعتبر مقرّبون منه أنّ ما لجأ اليه فيه الكثير من الحكمة. ولم يلتقِ الطرفان سوى على اعتبار انّ البلاد تعيش مرحلة استثنائية غير عادية تتّسع لكلا النظريتين.
ولذلك، تركّزت الانتقادات والملاحظات المتبادلة على ما لجأ اليه عون من فصل مبرمج بين المراحل الدستورية التي ترافق حدثاً من هذا النوع. فكان بيان يتصل باستقباله الرئيس المستقيل وتسلّم كتاب الاستقالة ونشره، وتأجيل المرحلة التالية لتكليفه بتصريف الأعمال قبل تأجيل تحديد موعد الاستشارات الخاصة بتسمية سلفه ليشكّل الحكومة الجديدة. فلم يحدّد الدستور كيفية معالجة الموقف الناجم عن الاستقالة ولم يرسم له خريطة طريق حول كيفية عبور المراحل المتلاحقة في الشكل والتوقيت عدا المضمون. ولذلك بقي التقدير من مهمات الرئيس الشخصية التي لا تجيّر لأحد، كما عند إصداره مرسومي قبول استقالة الحكومة ومهمة تكليف رئيس الحكومة قبل أن يوقّع والرئيس المكلف مرسوم التشكيلة الحكومية الجديدة.
وعليه فقد بقيت قراءة الملاحظات التي سيقت بأنّ رئيس الجمهورية قد تجاوز الدستور أو حدّ السلطة السياسية لا تمتّ الى الدستور بصلة. فالرئيس هو الوحيد الذي أقسم على الدستور متعهداً باحترامه وتطبيقه وعدم السماح لأحد بتجاوزه متى ثبت ذلك. ولذلك انتقلت المناقشات الى مكان آخر، فاتّهم الرئيس بالمماطلة في تحديد آلية مواجهة التطور الدستوري، ووجهت قيادات «الانتفاضة الشعبية»، إضافة الى قادة سياسيين وحزبيين، الانتقاد تلو الآخر اليه من أكثر من ساحة وطالبوه باستعجال هذه المراحل الدستورية ليس خوفاً من أيّ «فراغ دستوري وهمي»، بل من أجل تحقيق مطالبهم بتشكيل حكومة مستقلّة وحيادية من التكنوقراط تسعى الى إدارة مرحلة انتقالية تبدأ بتقصير ولاية مجلس النواب ووضع قانون عادل تُجرى على أساسه الانتخابات النيابية المبكرة كخريطة طريق انتفض من أجلها اللبنانيون في الساحات على مساحة الوطن من اقصى الجنوب الى الشمال ومن عمق البقاعين الى بيروت وجبل لبنان.
وعلى قاعدة، أن ليس كل ما يتمناه الحراك يمكن ان يدركه، يدافع المؤيدون لرئيس الجمهورية عن الآلية التي اعتمدها، فاعتبروا ان خطوة التمهل في ولوج المراحل الدستورية الكاملة هي من ضمن استراتيجيته الهادئة لإدارة المرحلة المقبلة قياساً بحجم خطورتها وكيفية عبورها بأقل الخسائر الممكنة. ولذلك ربط رئيس الجمهورية عملية التكليف بشروط لم يلحظها الدستور ولم يحظرها، فأعطى، على حدّ تعبير المقربين منه، مهلة كافية للكتل النيابية التي ستُستدعى الى الاستشارات لتسمية مرشحها وإعطاء صورة مسبقة لشكل الحكومة المطلوبة. ذلك أنّ مهمتها باتت مرسومة بقوة التطورات، وتحظى بإجماع لبناني لا يرغب أحد في خوض النقاش فيه. فالظروف التي تمرّ فيها البلاد رسمت أولوياتها بدءاً بإقرار موازنة عام 2020 ومواجهة التحديات الاقتصادية والنقدية والاجتماعية والخروج من نفق هذه الأزمات في أسرع وقت ممكن.
ويعترف العارفون، بأنّ إقران رئيس الجمهورية أمر تسمية الرئيس المكلف تأليف الحكومة بشكل الحكومة ومواصفاتها مهمّ للغاية، فالمرحلة لا تقتضي التمهّل في عملية التأليف بعد التكليف رغم التعقيدات المتوقعة. لكن أوساطاً معارضة انتقدت هذا الربط بين مهمتي التسمية للتكليف وعملية التأليف. فالشقّ الثاني من مهمة الرئيس المكلف الذي عليه أن يستشير النواب في شكل الحكومة ومهمتها. وربما يصل الأمر عند الدخول في التفاصيل الى تحديد أولويات البيان الوزاري وهو أمر معقد في ظلّ انقسام اللبنانيين حول عناوين سياسية مهمة ليس أقلها إمكان تضمين البيان الوزاري ثلاثية «الجيش والشعب والمقاومة» من عدمه. عدا عن موضوع تطبيق نظرية الفصل بين النيابة والوزارة وشمولها موقع رئيس الحكومة، كما بالنسبة الى الوزراء ووضعهم على لائحة واحدة كمخرج لابعاد بعض الأسماء المستفزة من تركيبة الحكومة الجديدة رغم الفصل المنطقي والعرفي بين المهمتين طالما أن الدستور لم يبتّ الفصل بين الصفتين التشريعية والتنفيذية، كما في بعض دساتير العالم.
وعليه، ستشهد الساعات المقبلة مزيداً من المشاورات على قاعدة أنّ هامش المناورة تقلّص لدى جميع الأطراف الى الحدود الدنيا، رغم وجود مخاوف جدية من إمكان تجاوز البعض حدّ السلطة باستخدام القوة في فرض معادلات جديدة اعتادها بعض الأطراف بسبب الشعور المفرط بالقوة والسلاح، رغم التحذير المسبق الواضح والصريح من أخطار استخدام أيّ طرف يمتلك هذه المقومات، وقد سبق له أن عبّر عن ذلك في «غزوة» ساحتي رياض الصلح وساحة الشهداء الثلاثاء الماضي. وعندها قد تنتفي الحاجة الى التنظير في الأصول الدستورية لتدخل البلاد مرحلة جديدة يرتفع فيها منسوب التوتر دون القدرة على تطويقه. فنكون قد بلغنا مرحلة تتجاوز حدود التكليف والتأليف الى أزمة يختلط فيها الدستور بالأعراف، ولا تفصل بينهما سوى السياسة لتكتسب وجوهاً مختلفة وربما إقليمية ودولية لا تُقاس أخطارها وتردّداتها من اليوم.