في العادة، تحدث الأزمات السياسية بين الأحزاب المشاركة في السلطة فيما صار يُعرفُ بالديمقراطيات. وتتغير الحكومة بسلاسة دونما وجود متظاهرٍ واحدٍ في الشارع. وحتى في لبنان، صار تشكيل الحكومات صعباً بسبب المحاصصة، أما استقالتها فقد كانت في منتهى السهولة. المشكلة هذه المرة من طبيعة مختلفة، فللمرة الأولى يستقيل رئيس الحكومة تحت ضغط المظاهرات في الشارع. وهو بذلك ولو بكثير من التردد والصوت المنخفض والخطوات المترددة - يخرج من التسوية أو عليها وهو الذي عقدها قبل ثلاث سنواتٍ ونيف مع الجنرال عون وحزبه، وحسن نصر الله وحزبه. لماذا تؤول استقالته بهذا الشكل؟ فبعد الانتخابات التي خسر فيها سعد الحريري ثلث نوابه جرى تكليفه من جديد برئاسة الحكومة تبعاً لشروط التسوية وبنودها. نحن هنا لسنا أمام صراع بين أطراف السلطة على السياسات الداخلية أو الخارجية أو حتى على المكاسب والمصالح.
لقد كانت هناك خلافات على السياسة تجاه النظام السوري وإعادة اللاجئين، وهدّد الجميع الحريري بالذهاب إلى بشار الأسد المنتصر لكي يسمح بإعادة اللاجئين! لكنّ الحريري ما بدا منزعجاً جداً. إنما كانت المشكلة الحقيقية: كيف يمكن تجنب الانهيار الاقتصادي والمالي؟ وجماعة الرئيس بالذات لا يعتبرون أنّ عليهم تحمل جزء من المسؤولية. بينما يحاصر الفرنسيون الحريري بالشروط لكي يقبلوا بالمساعدة في إنفاذ «سيدر»، ولكي يوجهوا ملاحظاتهم إلى وزاراتٍ وملفاتٍ ينتشر فيها الفساد، ويتولاها العونيون من سنواتٍ طويلة. ولذلك فقد كانت الموافقة في مجلس الوزراء على «الورقة الإصلاحية» رغم الاختلال الكبير لصالح باسيل فيها بمثابة أعجوبة. وقد علَّله رئيس الحكومة بضغط المتظاهرين في الشارع.
كل الفرقاء في حالة إنكار للأزمتين الاقتصادية والمالية، وهذا من سنواتٍ وليس الآن فقط. فمنذ العام 2011 وإلى اليوم يحمل العونيون وأنصار «حزب الله» و«حركة أمل» على الفساد! أما الـ35 مليار دولار التي أنفقها العونيون في الكهرباء منذ العام 2008، وسيطرة «حزب الله» على المطار والمرفأ والمعابر مع سوريا وموارد كل تلك المرافق؛ فكل ذلك لا يذكره أحد. وعلى أي حال، كل هذا الفساد أوصل إلى أزمة خانقة على كل المستويات، وهي التي أنزلت الشباب إلى الشارع بعد حكاية الضرائب على الواتساب!
أما السبب الثاني لاستقالة الحكومة فهو هذه المظاهرات الهائلة التي فاقت كل وصف، فحتى بالمقارنة مع مظاهرات 14 آذار السابقة - يقول صديقي سام منسّى إنها أكثر بسبع مرات أو أكبر حجماً بسبع مرات. والذي أراه أنه ليس المهمّ الأحجام، بل انعدام الطائفية بتاتاً، ولدى المسيحيين قبل المسلمين، وأنه لا يقودُها حزبيون مجرَّبون، بل طلاب وأساتذة جامعيون، وأنها تشبه بالفعل حركات الشباب في أوروبا من حيث الاهتمام بنوعية الحياة، وإن غلب خطاب الفقر والحاجة في صفوف المتظاهرين المسلمين بطرابلس والبقاع.
منذ العام 2008 حين احتلّ حسن نصر الله بيروت، ما عاد هناك «جمهور» يستطيع النزول إلى الشارع إلاّ جمهور الحزب، وليس في بيروت فقط؛ بل في معظم مناطق المسلمين. فحتى في طرابلس بالشمال وبر إلياس بالبقاع وبلدات سنية أُخرى صارت تقامُ احتفالات للمقاومة ومن جانب سُنة أتباع للحزب. وقد حدث شيء من ذلك قبل أقل من شهر. وهذا فضلاً عن الاحتفالات الضخمة التي يخطب فيها حسن نصر الله من وراء ستار وأمامه جمهور ضخم، ويحدث ذلك خلال العام أكثر من خمسين مرة!
هذه المرة مع المظاهرات ليس مثل كل المرات. لقد نزل الشبان والشابات في المناطق الإسلامية والمسيحية بعشرات الألوف، في الوقت نفسه. وهتافهم واحد: إسقاط الحكومة، وتجاوز البعض ذلك إلى إسقاط النظام أو العهد، وإجراء انتخابات مبكرة.
أما إسقاط الحكومة فَعِلّتُها الفسادُ والفشل. وكيف يستطيع الفاسدون إنفاذ الخطة الإصلاحية؟ في حين تعني الشعارات الأُخرى، ومن الشبان المسيحيين قبل المسلمين أنهم فقدوا الثقة بالتيار الوطني الحر، مع أن معظمهم صوَّت له في الانتخابات الأخيرة. فهذه خيبة شديدة قلبت الأمور رأساً على عقب في أذهان وأنظار الشباب لمشاهدتهم الفساد الفاضح في سلوك رئيس التيار الوطني الحر، والتوجه السياسي لمعاداة العرب والدوليين والذهاب باتجاه «حزب الله» وبشار الأسد وإيران!
الذي حصل إذن نتيجة الأزمة الاقتصادية، ونتيجة نزول الشبان إلى الشارع جديدٌ تماماً. فهذا جمهورٌ رُبعُهُ من الشيعة أيضاً، ومنطقه ضد كل النظام الذي يحرسه الحزب ويتبادل معه الفساد والتضامُن ومن رئيس الجمهورية وإلى البرلمان وحتى إلى الحكومة ولهم فيها 19 وزيراً من ثلاثين! حسن نصر الله خرج مرتين مشدداً على دعم العهد وعدم تأييد استقالة الحكومة، والتخويف من الفراغ والفوضى والحرب الأهلية، وتهديد المتظاهرين بأنّ هناك من دخل عليهم من الأثرياء الفاسدين ومن السفارات.
عندما استقال الرئيس سعد الحريري انزعج بعض الشبان وقالوا: لماذا يستقيل رئيس الحكومة ولا يستقيل رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب؟! الحكومة هي السلطة التنفيذية وهي تستقيل باستقالة رئيسها، ويمكن أن يقيلها مجلس النواب، ويمكن أن تستقيل باستقالة ثلث أعضائها. وسعد الحريري استقال استجابة لطلب الشارع فهو ما ضحَّى ولا انظلم، لأنّ الحكومة تعطلت بسبب رفض الشارع، والانهيار الاقتصادي قادم وسيتحمل مسؤوليته إن لم يستقل، بعد أن حاول الرئيس ونصر الله ارتهانه لصالحهما! فالمُحرج ليس الحريري بل الرئيس ونصر الله اللذان لم يستجيبا لضغوط الشارع وتمسكا بجبران باسيل، والحريري الذي شاركه لثلاث سنوات ما عاد يستطيع ذلك لكراهية الجميع لباسيل.
ما الذي تغير إذن نتيجة استقالة الحريري؟ الذي تغير أنه حرَّر نفسه من ضغوط الشارع، وضغوط نصر الله وباسيل: فهل لا يزال هذا النظام المتخثر قادراً على الحراك وعلى التفاوض؟ لا يبدو أنه قادرٌ على ذلك، لافتقاده إلى الشرعية وافتقاره إلى الهمة، وعدم انفتاحه على المحاسبة وقد دغدغه الفساد لكنه صدّعه!
كان المأمول أن ينتهي نظام الحرب بإقرار اتفاق الطائف عام 1990 لكنْ بسبب عدم تطبيق الطائف عاد أطراف الحرب الرئيسيون فتحكّموا بالنظام. اليوم يثور عليهم الشارع وينبذهم جميعاً: عون وصهره، ونبيه بري، وجنبلاط ومحيطه، وحتى جعجع. كل هؤلاء الذين طالت أعمارهم وأُرجئت أقدارهم، جاءهم الاستحقاق للمرة الثانية أو الثالثة. لقد استمتعوا كثيراً وتقدمت بهم السن. لكنّ باسيل ونصر الله لا يشعران بالتعب، وسيظلان على سلاحهما لانتهاز الفرصة اليوم أو غداً. كانوا يريدون تجنب مواجهة الشارع بارتهان الحريري، والآن صاروا مضطرين لمواجهة الشارع والحريري معاً: يرضى القتيل وليس يرضى القاتل!
حين احتلّ حسن نصر الله بيروت ما عاد هناك «جمهور» يستطيع النزول إلى الشارع إلاّ جمهور الحزب وليس في بيروت فقط؛ بل في معظم مناطق المسلمين.