هناك تفليسة آتية بعد ساعات أو أيام. إذا كان أحد قادراً على إنكارها فليُسارع إلى الطمأنة. وعندما تصبح التفليسة واقعاً على الأرض سيصبح البلد كله «على الأرض»: الانتفاضة وأهلها والسلطة وأهلها.
في هذه الحال، حتى الكلام الصادق والجريء على محاربة الفساد وبناء الدولة وتغيير الطاقم السياسي الملوَّث سيصبح في غير محلّه، إلى حدّ ما. وسيبدو المطالبون به وكأنهم وافِدون من كوكب آخر، لأنّ الواقع سيفرض معطيات ومعايير وأولويات جديدة.
وفي المقابل، سيكون تشبُّث الحكّام بالسلطة أمراً غير مبرَّر. وإذا كانوا هناك لِتقاسُم النفوذ والمصالح والمنافع، فعليهم أن يغادروا لأنّ شيئاً لم يبقَ في البلد ليتقاسموه أو يمارسوا سلطتهم عليه.
وعلى العكس، في الأيام الآتية سيُصَنَّف انتحارياً مَن يتبرّع بممارسة السلطة في بلد واقعٍ في أسوأ أنواع الانهيارات. وسيكون انتحارياً مَن يأخذ بيديه كرة اللهب، ويتحمّل المسؤولية عن الأخطاء والخطايا الحالية والمتراكمة منذ سنوات.
وطبعاً، مَن سيكون في الواجهة، لن يكون قادراً على الهرب. وسيشير إليه الناس بالإصبع كمتّهم، وسيكون أكثر المعرَّضين للمحاسبة. وهذا هو المطلوب في أي حال.
إذا فُتِح باب المحاسبة فسيقود إلى مفاجآت هائلة، وسيشكّل ظاهرة هي الأولى من نوعها منذ عشرات السنين. ويرى البعض أنّ استرداد بضعة مليارات من دولارات الأموال المنهوبة، من شأنه أن يَتكفّل بانفراجات في الأزمة المالية والنقدية.
الضالعون في نهب المال العام هنا يَكمن خوفهم، خصوصاً أنّ انكشافهم سيؤدي إلى احتراقهم سياسياً وشعبياً على عتبة استحقاقات انتخابية نيابية مبكرة يُحتَمَل إجراؤها، وتأليف حكومة أو حكومات، ثم الوصول إلى الانتخابات الرئاسية.
ومن سُخريات القدر أنّ القوى النافذة في السلطة ترتكب خطأ جسيماً عندما تُجبر شباب الانتفاضة على فتح الطرق، وإفشال الحراك، ودفع البلد إلى استئناف «الحياة الطبيعية». فالانتفاضة هي التي أخَّرت انكشاف الانهيار النقدي المَحتوم قرابة أسبوعين، ومنحت المسؤولين فرصة جدّية لتجَنّبه… لو أرادوا.
ولا تملك السلطة أي تَصوّر حول الطريقة التي ستواجه بها الانهيار الآتي إذا أوقف المنتفضون حراكهم. ولكنها، مع ذلك، تريد إنهاء الانتفاضة فوراً. كما أنها تَتنكّر لِما تطرحه هذه الانتفاضة من مخارج إنقاذية، خصوصاً لجهة استبدال الحكومة الحالية بأخرى مستقلة ونظيفة.
هذا يعني أنّ السلطة ذاهبة بكامل إرادتها إلى الانتحار ونَحر البلد معها. وهذا النموذج من السياسيين يذكّر بالنماذج البائدة في أنظمة متخلفة، بعضها جرت أزاحته. ويبدو مثيراً كيف تَتذاكى القوى السياسية النافذة في مسألة استقالة الحريري، فيما الانهيار يهزّ الأرض تحتها، وهي لا تفكّر إلّا في تأمين مصالحها الصغيرة والكبيرة، ومصالح القوى الداخلية والخارجية.
واضح أنّ ما يُخَطَّط له هو إيجاد حالة من تصريف الأعمال لا تنتهي. وخلالها، ربما تتعب الانتفاضة وتجوع وتمرض وتموت. ويُراد للناس أن يسكتوا تلقائياً، إذا كان إسكاتهم بالقوة مسألة محظورة دولياً وتتسَبّب بفضيحة لا أحد يقدر على تَحمُّل تبعاتها.
ويبدو مكشوفاً لماذا تتباطَأ القوى السياسية السلطوية في التعامل مع استقالة الحريري إلى حدّ إهمالها تقريباً، تحت شعار التأنّي. وفيما الوضع يستدعي الإنقاذ ضمن مهلة ساعات أو بضعة أيام، تبعث هذا القوى بإشارات مفادها أنّ ولادة الحكومة الجديدة ستستغرق شهوراً. وللتذكير، في الظروف الطبيعية يحتاج تأليف الحكومة في لبنان إلى ما بين 6 أشهر وسنة.
ليس على الانتفاضة أن تمنح القوى السياسية سوى أيام لا تصل إلى الأسبوع لتتدبّر أمرها، وتشكّل حكومة الإنقاذ النظيفة المصغّرة وتمنحها الثقة، فتباشر عملها فوراً. فالبلد في وضعية الطوارئ. وإذا وُلدت هذه الحكومة اليوم - قبل انكشاف الانهيار - فإنها ستكون قادرة على تحقيق الأهداف وإنقاذ ما أمكَن. لكنّ مهمتها ستكون أكثر صعوبة بعد ذلك.
إنّ ولادة الحكومة المنشودة سيكون من مصلحة الجميع، حتى القوى السلطوية، لأنه سيوحي بثقة المجتمع الدولي الذي سيفكّ الحصار المالي المضروب على لبنان، ويساهم في الحدّ من مخاطر الانهيار، ويحمي الاستقرار الذي يحتاج إليه الجميع.
في أيّ حال، تُخطئ القوى السلطوية في تقدير قوة الانتفاضة، وستُخذل إذا بقيت تراهن على سقوطها. فالحضور الذي رسَّخَته هذه الانتفاضة في أسبوعين جعلها ركناً أساسياً في أي معادلة مقبلة.
ولا يبدو، حتى القمع، قادراً على سحق الانتفاضة. ولا مجال لعقارب السياسة أن يعيدوا عقارب الساعة. وبعد انهيار العملة الوطنية، وصراخ الخبز والدواء والاستشفاء والكهرباء والبنزين والغلاء، سيخوض المنتفضون معاركهم انتحارياً لأنهم خسروا كل شيء أساساً.
في المقابل، مَن يدرس جنون السلطة يعرف أنها ستمضي أيضاً بنهجها الانتحاري في المواجهة، على طريقة «عَليّ وعلى أعدائي»! لاعتقادها أنّ الموت أفضل لها من الحل السلمي الديموقراطي النظيف. أليست هذه هي تراجيديا النهايات المعروفة لأنظمة التخلّف والفساد؟