في غمرة مسلسل السيناريوات المتداولة في أعقاب استقالة الحريري، تقدمت الروايات التي تتحدث عن البلبلة ضمن الحلف الواحد، ولاسيما على جبهة العهد ومُسانديه. لكن ما هو ثابت أنه لم تكن هناك إمكانية لإحياء جلسات مجلس الوزراء، فالتركيبة كان يرفضها الشارع، وبسبب الشظايا التي أصابت أركانها نتيجة تبادل الاتهامات في مواجهة الإنتفاضة.
فالاستقالة عُدّت، بمنظار رئيس الجمهورية ومعه رئيس «التيار الوطني الحر» والثنائي الشيعي و»المردة»، خروجاً على محطتين أساسيتين: الأولى، مرتبطة بتاريخ استقالته من الرياض في 4 تشرين الثاني 2017 التي اقتربت ذكراها الثانية.
والثانية، دَنت بفارق 48 ساعة عن الذكرى الثالثة لولادة التسوية السياسية التي جاءت بعون الى بعبدا وعودة الحريري الى السراي طيلة فترة الولاية الرئاسية.
كما عَدّها هؤلاء رَمياً من الحريري للجَمرة من بين يديه، وردّها الى أحضان شركائه في التسوية والحكومة، ولاسيما الذين كانوا يستعدون للانقضاض على «الانتفاضة» بكل الوسائل المتوافرة لديهم، بعد فشل استخدام الجيش بالقوة أو بتجربة «غزوة» ساحتي رياض الصلح وساحة الشهداء أمس الأول.
كلّ ذلك كان يجري على وَقع تمسّك مؤيدي الاحتفاظ بالحكومة، رفضاً منهم لكل ما عبّرت عنه انتفاضة الشعب بطوائفه ومذاهبه المختلفة وتردداتها الداخلية والخارجية. فقد كان هدفهم الأساسي استيعابها وإنهاء مفاعيلها، والانطلاق الى ترميم الحكومة والاقلاع بها من جديد.
لذلك، بقي الإصرار على رفض الاستقالة قائماً بالترغيب أو بالترهيب، والاصرار على طَيّها، ودعوة الحريري الى الصمود الى جانبهم، بينما كان هو مصرّاً على الاستقالة تلبية لمطالب الانتفاضة، أيّاً كان الثمن ولو كان خروجه من السراي، فـ«المناصب تأتي وتذهب»، كما قال في رسالته الى اللبنانيين قبل تقديم الاستقالة.
وبانتظار أن تُحدد رئاسة الجمهورية المراحل الدستورية المكملة لمرحلتي الاستقالة والتكليف بتصريف الأعمال، ظهر التريّث واضحاً لدى رئيس الجمهورية بتحديد المرحلة اللاحقة بدعوته الى الاستشارات النيابية الملزمة من أجل تسمية رئيس الحكومة الجديد.
وطالما انه لم يحدد الى اليوم موعد هذه الاستشارات، فقد توسّعت التفسيرات المتناقضة، ومنها اعتبارها من السوابق التي لم تحصل من قبل، بينما نقل زوّار رئيس الجمهورية عنه قوله إنه ليس مستعجلاً لتحديد موعد الإستشارات الى الأسبوع المقبل، بمعزل عن الظروف التي تمر فيها البلاد. وهو يرغب في أن تأخذ الساحة السنية وقتها في تسمية البديل، سواء الحريري أم غيره، من دون تحديد الآلية التي يجب اعتمادها.
لذلك، اعتبر البحث عن هذه الآلية خارج إطار الإستشارات النيابية الملزمة التي لا تتأثر بأكثرية النواب ممثّلي السنة، وهم من كتلة الحريري، بل بأكثرية نواب الأمة. فهم من يحسم التسمية. والى ذلك، لا وجود في الدستور بما يقول باختيار الشارع السني لرئيس الحكومة سوى بالعودة الى النظرية التي ترجمتها التسوية السياسية المنهارة، والتي قالت باختيار الأقوياء في طوائفهم ليكونوا في مواقع الرئاسات الثلاث، وهو ما يعدّ مخالفة لِما يقول به الدستور.
فالأكثرية النيابية التي أفرزتها انتخابات 6 أيار عام 2018 هي في المقلب المُعادي للحريري بعد استقالته، وقد خسر تأييدها للبقاء في السراي حسب ما أعلن في الساعات الماضية.
وعلى وقع هذا التفسير الذي شكّل سابقة في تاريخ التعامل مع مثل هذا الاستحقاق الدستوري، توقف المراقبون أمام زيارة نائب رئيس مجلس النواب إيلي الفرزلي «بيت الوسط» بعد ظهر أمس بصفة شخصية، فنفى التسريبات التي قالت إنه موفَد من قيادة «التيار الوطني الحر» باعتباره أحد أعضاء كتلة «لبنان القوي»، أو أنه موفَد من بري بصفته نائباً له.
وقال في اتصال خاص به انه استمع من الحريري، «الذي استقال في ظروف غير عادية»، باهتمام الى «ظروف الأزمة وما رافقها، ومراميها، وطريقة التعامل معها».
ولمّا سألته عن الاسم الذي سيسمّيه في الاستشارات الملزمة، أكد الفرزلي انه «ليس لديه غير الرئيس الحريري نفسه». وهو ما شكّل تفسيراً لِما قصده في تصريحه العلني، عندما قال إنّ الحريري «أحد أعمدة وحدة الوطن... وأحد أعمدة الحفاظ على العيش المشترك... وأحد مقوّمات المناعة للبلد في وجه التحديات الخارجية». كما أنه «صمّام أمان للمسألة المالية والنقدية والاقتصادية والاجتماعية، الى جانب أشقائه في السلطة...».
عند هذه المعطيات يبرز واضحاً انّ الهدف من تأجيل رئيس الجمهورية للاستشارات النيابية الملزمة الى مطلع الأسبوع المقبل هو التفاهم على هويّة الرئيس الذي سيُكَلّف، وانّ احتمال عودة الحريري ليس مستحيلاً، وهو أمر يحتاج الى ضمان موافقة «حزب الله» قبل غيره من القوى الأخرى. ولذلك طرح السؤال: هل هناك سعي الى تسوية جديدة؟
وهل سيكون رئيس الجمهورية والسيد نصرالله على الموجة عينها في رفض عودة الحريري أو قبولها؟ أم انّ هناك بحثاً جدياً عن أسماء أخرى بديلة بدأت تذرّ بقرنها في بعض الصالونات؟ ولكن السؤال المطروح بجدية: هل هناك من بديل للحريري سيقبل هذه المهمة؟ وهل يوافيه المجتمع الدولي بالإيجاب أم بالعكس؟ وإن قبلها، فهل يشكّلها؟.