عندما اتخذ الرئيس سعد الحريري قراره بالاستقالة، كان قد وصله الجواب النهائي لرئيس الجمهورية برفض الصيَغ المقترحة حول إجراء تعديل حكومي تتراوح بين إدخال وجوه جديدة غير سياسية أو تشكيلة مختلطة ما بين سياسيين وتكنوقراط.
الرئيس عون رفض كل هذه الصيغ لأنها تلحظ خروج الوزير جبران باسيل من الحكومة.
إستمهال الرئيس نبيه بري له لم يؤدِ الى تليين موقف رئيس الجمهورية. فكتب الرئيس الحريري استقالته، بعد أن حمّل مسؤولية ما آلت اليه الامور في اتهام أخفاه بين سطور كتاب الاستقالة: «حاولتُ إيجاد مخرج للاستماع الى صوت الناس وحماية البلد».
وهو بهذه العبارة يحمّل الجهة التي رفضت الاستماع الى صوت الناس. ومن ثم قال في مقطع ثانٍ: «ما في حَدا أكبر مِن بَلدو». والواضح انه يقول هنا، لا يمكن ان يكون مصير شخص، أيّاً يكن، أهم من مصير البلد. ومن البديهي ان يكون المقصود الوزير باسيل. ولكن الأهم من ذلك اكتمال اللحظة الخارجية، وتحديداً الاميركية، للسماح باستقالة الحكومة في مقابل المفاجأة التي أصابت قصر بعبدا وقيادة «حزب الله» على السواء.
الجميع لوّحوا بالفوضى مع اتخاذ الحريري قراره بالاستقالة. فحاكم مصرف لبنان، وفي إطلالتين مدروستين في اليوم نفسه لاتخاذ الحريري قراره بالاستقالة، لَوّح وحذّر من الفوضى الاقتصادية والمالية. كان في الحقيقة يؤمّن طريق الاستقالة للحريري.
أمّا «حزب الله»، الذي فوجئ بقرار الاستقالة، فحاول قبل ساعات معدودة التلويح بفوضى الشارع من ساحة رياض الصلح المُلاصقة للسراي الحكومي، بهدف منع الحريري من «تطيير» الحكومة التي تشكّلت وفق توازنات لمصلحته.
التلويحان المضادان أرعبا اللبنانيين، ولو أنّ القراءة المتأنية تثبت أن لا مصلحة لأيّ من الطرفين في دفع لبنان باتجاه الفوضى. فلا واشنطن في مصلحتها إعادة تعكير الهدوء عند حدود لبنان الجنوبية في وقت تمرّ فيه اسرائيل بحقبة سياسية انتقالية، ولا أيضاً التعكير على تلزيمات استخراج الغاز البحري، ولا بالتأكيد دفع «حزب الله» لاستعادة حضوره في سوريا، فيما يجري تنفيذ صفقة كبيرة تطال الاكراد، وتمهّد لحل عسكري لإدلب بدأ من خلال تصفية أبو بكر البغدادي. أضف الى ذلك أنّ الفوضى في لبنان ستعني إعادة تفجير قنبلة النازحين السوريين في وجه أوروبا.
وفي المقابل، فإنّ فوضى الشارع، في حال حصلت، ستؤذي «حزب الله» الذي يحتاج الى غطاء شرعية الدولة اللبنانية أمام التطورات الاقليمية الهائلة والتهديدات الاسرائيلية.
أضف الى ذلك أنّ الدولة اللبنانية قادرة على تأمين الحماية الاجتماعية لبيئة المقاومة، وفيما لو جرى اعتماد الضغط الاقتصادي الدولي فإنّ الجوع سيصبح أولوية لدى الجميع تسبق السياسة والالتزامات العقائدية حتماً. إذاً، فإنّ التلويح بالفوضى وحتى بتغيير النظام في لبنان، كان بهدف الترهيب، كلّ لحساباته. الآن استقالت الحكومة وأصبحنا أمام حسابات مختلفة.
بالنسبة الى «حزب الله»، صحيح أنّ ما كان يَرتاب منه باحتمال وجود مشروع كبير ولائحة مطالب ستتدحرج، وصولاً الى إقصائه عن السلطة والذهاب الى انتخابات نيابية جديدة، وفق قانون جديد، وبالتالي محاصرته، تبيّن عدم صحته. صحيح أنه خسر بعض النقاط برحيل الحكومة، لكن يمكن تعويضها لاحقاً.
طبعاً من خلال عدم تكرار الاخطاء نفسها، والتي قامت على أساس غَضّ الطرف عن تجاوزات وفساد وسوء إدارة حلفائه في مقابل الاحتفاظ بتأييدهم السياسي. لا بد من الالتفات الى وجع الشارع أيضاً، وشكواه المتزايدة.
الواضح أنّ جميع القوى السياسية باشرت وضع احتمالات المرحلة المقبلة وكيفية دَوزنة حساباتها. وهذه الاحتمالات هي ثلاثة:
1- تكليف شخصية سنية من خارج «تيار المستقبل» بتشكيل الحكومة المقبلة، بحيث تكون حكومة سياسية. لكنّ هذا يعني احجام «المستقبل» والاشتراكيين و»القوات اللبنانية» والكتائب عن المشاركة في الحكومة، ما يعني أنها ستصبح حكومة مواجهة معرّضة للوقوع تحت الضغط الاقتصادي لواشنطن، وبالتالي دفع البلد الى تجديد الانتفاضة الشعبية.
2- إعادة تكليف الرئيس سعد الحريري الذي يَجنح لتشكيل حكومة من غير الحزبيين وأقرب الى المتخصّصين، لكنّ هذه الحكومة يرفضها «حزب الله» ومعه رئيس الجمهورية، كلّ لأسبابه، ما يجعلها صعبة التحقيق.
3- إعادة تكليف الحريري، وإعطائه وقتاً كافياً قبل التشكيل يسمح بإجراء مفاوضات في الكواليس، خصوصاً مع «حزب الله»، وعبر الرئيس نبيه بري على الأرجح، الذي لعب هذا الدور دائماً، ويجري فيه إعطاء الضمانات التي يطلبها «حزب الله» في مقابل ولادة حكومة لا تضمّ أيّاً من وزراء الحكومة المستقيلة، بحجّة أنهم سقطوا تحت وطأة ثورة الشارع عليهم.
وقد يَلي ذلك فتح خزنة «سيدر»، وربما أيضاً باب مساعدات اقتصادية أميركية جديدة، ولكن بعد تنفيذ الاصلاحات المطلوبة، كما جاء في بيان وزارة الخارجية الاميركية منذ أيام.
يبقى فريق «التيار الوطني الحر» الذي حصد الخسارة الأكبر بين جميع الافرقاء. الأكيد انّ هذا الفريق مُلزَم بإعادة إجراء نقد ذاتي لكامل المرحلة السابقة، واستخلاص الدروس. وأيّاً كان حجم الاستغلال السياسي للانتفاضة الشعبية، إلّا انه لا يمكن إغفال انّ «الجمهور العوني» هو الذي شَكّل المساحة الأكبر من التظاهرات الشعبية.
كانت «ثورة» الطبقة الوسطى المسيحية، والتي طالما شكّلت الحاضنة التاريخية للعونية السياسية. الواضح أنها رفضت أسلوب جبران باسيل السياسي، لا من حيث الشكل، فوقية واستعلاء، ولا من حيث المضمون، تركيبة رجال المصالح والانتفاع والمتمولين وحَصر التعيينات بالأتباع والأزلام بعيداً عن الكفاءة والقدرة على التغيير. هذا ما تأخذه عليه كريمَتا الرئيس ميشال عون والكوادر التي خرجت من «التيار».
هنالك من يسوّق أنّ الحل سيحصل من خلال تعديل مضمون خطاب باسيل، الذي سينتقل من التزام مطالب المسيحيين الى رحاب كل الفئات والطوائف. فهل المسألة «غب الطلب»، أو «ما يطلبه المستمعون» لقاء البقاء في السلطة، أم انّ هنالك اقتناعاً سياسياً ونضالاً حقيقياً، ما يوحي أنّ المشروع سلطوي لا أكثر!!!