ما يبدو مقدّسا في العراق، يُداس بالأقدام في لبنان. وما يبدو نظاما ميليشياويا مسلحا في العراق، يبدو قزما عاجزا في لبنان، حتى وإن لم ينقصه السلاح.
لقد تم تقديم المشروع الطائفي، في دوائر التخطيط الأميركية قبل غزو العراق، بوصفه جزءا من الحملة لـ”إعادة العراق إلى القرون الوسطى”.
هذا المشروع الذي تعود أصوله إلى مستشار الأمن القومي زبغنيو بريجينسكي في إدارة الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر، لم يكن سوى مشهد من مشاهد التحولات التي فرضها ظهور “الجمهورية الإسلامية في إيران” عام 1979. بعد عام واحد فقط، ومع اندلاع الحرب ضد العراق، التقط بريجينسكي الفكرة: إعادة تفتيت العالم العربي على أساس العرق والمذهب والدين.
لم تكن الفكرة، بحد ذاتها، تنطوي على عبقرية استثنائية. كانت مجرد محاولة لتعميم النموذج الطائفي الإيراني في مجتمعات أخرى، لتمزيقها من الداخل.
وكان ذلك يتوافق تماما، مع غاية الحرب نفسها، لتدمير العراق كدولة، ومن ثم بقية دول المنطقة الأخرى.
بريجينسكي رأى أنه يجب إثارة صراعات داخل هذه الدول، كتمهيد لإعادة خارطة الشرق الأوسط على نحو مختلف لخرائط سايكس-بيكو.
استنادا إلى هذا التصور، تقدّم برنارد لويس ليكون بمثابة المنظّر الرئيسي للمشروع. واعتبارا من العام 1993، تصدر جدول أعمال الكونغرس في ما يتعلق بمستقبل المنطقة.
وبطبيعة الحال، فقد تحوّل المشروع إلى جهد منظم من جانب البنتاغون، وسرعان ما تبعته دراسات وخرائط وتمويلات وبحوث عن أدوات للتنفيذ.
الإخوان المسلمون كانوا هم حصان الرهان الأول في مجتمعات غالبها من السنة، بينما كانت إيران هي النموذج الذي ينطلق منه التمزيق إلى حروب أهلية مكتملة المقومات والمعالم.
في لبنان، كان المشروع يؤدي دوره. فالنظام الذي قام على أسس طائفية كان قد أغرق البلاد بحرب أهلية دامت 15 عاما بين العام 1975 و1990. وهي حرب لم يمكن وقفها (باتفاق العام 1989) إلا بتكريس الأسس نفسها التي انطلقت منها الحرب.
بمعنى آخر: كان المشروع الطائفي واضح المعالم. وواضحة نهاياته. واضحة ميليشياته، وواضحا خطابه أيضا. ولم يكن ليحتاج إلى الكثير من الجهد النظري لتبريره. وبوجود تنظيمات تحمل يافطات إسلامية، وهويات مذهبية بديلة للهوية الوطنية، فلم يكن انخراطها في المشروع صعبا.
عندما تم غزو العراق في العام 2003، وُضع المشروع قيد التطبيق، بما يشبه التكرار الحرفي لكل التفاصيل، سنّة ضد شيعة، ثم عرب ضد أكراد، ثم مسلمين ضد مسيحيين، الأكثرية ضد الأقلية، والجميع ضد الجميع. فكان لكل مفصل من هذه المفاصل خارطة دماء ومجازر.
شيء واحد أخطأه مخططو هذا المشروع. هو أن دولة الطوائف، حتى وإن كانت هي النموذج المنشود للفوضى “الخلاقة” (كما تبنّتها كوندليزا رايس في ما بعد)، فإنها بحكم طبيعتها بالذات دولة فساد. والفساد إذ يغني عصاباته، فإنه يُفقر كل الآخرين، ويدفعهم إلى هاوية بلا قرار. وهؤلاء لم يمكن إبادتهم لتهنأ دولة الطوائف بنفسها. وفي الواقع: العراقيون ازدادوا عددا كلما ازدادوا حرمانا وفقرا، في ما يبدو وكأنه رد فعل سكاني تفرضه “الطبيعة” على الشذوذ السياسي للنظام الجديد.
ولئن نجحت دولة المحاصصات الطائفية في جرّ الملايين لخوض حروبها ومجازرها، فإنها دمرت حياتهم أيضا، وأحاطتهم بالخراب من كل جانب.
اللبنانيون رأوا ذلك بأمّ العين على امتداد 30 عاما، بعد توقف حرب الجميع ضد الجميع، كما رآها العراقيون، في حروب داخلية امتدت لتشمل أحياء وقرى وبلدات ومدنا، وذلك بمقدار ما شملت أعمال تهجير واغتصاب واعتقالات واغتيالات وهدم جوامع.
الخراب أصبح سمة عامة. والفساد هو وسيلة التعامل المهيمنة فيه. وككل فساد آخر، فإن عصاباته (ودولته) ما كان بوسعها أن تأبه لأكثر من سرقة المال العام، وتبديده على مشاريع وهمية.
هكذا تمّ نهب أكثر من 700 مليار دولار خلال أول 10 سنوات من عمر دولة المشروع الطائفي. بينما ظل عامة العراقيين يتراوحون بين فقر وتشرّد وجهل ومرض.
هذه الجمهرة العريضة رأت العاقبة. ولم يعُد بوسعها القبول بها ولا التعايش مع عصاباتها. فانتفضت لتبحث عن بديل.
هناك جيل جديد نشأ من بعد الكارثة؛ جيل يكتشف الآن لبنانيته أو عراقيته، لا من أي طائفة يكون. يكتشف أن الفقر لا يقتصر على طائفة بعينها، كما يكتشف أن أهل الفساد وقادة الميليشيات، المؤتمرين للولي الفقيه ولأمثاله، هم على السوية ذاتها من الانحطاط من كل الطوائف.
الفساد لا دين له، ولا طائفة. وهو لا يرحم أحدا، ولا حتى الذين يتواطؤون في الصمت عليه.
شيعة العراق، أكثر من سنتهم اليوم يعرفون كم أنهم بحاجة إلى أن يكتشفوا “الانتماء الجامع” الذي ذبحه الطائفيون. يستطيعون أن يروا حجم المجازر التي ارتكبت بحق أبناء وطن ضاع تحت سنابك خيل الرعاع الذين يقودهم خامنئي ليسبّحوا بحمد قاسم سليماني، وأتباعه من قرقوزات “التشابيه” العراقيين.
اللبنانيون رأوا الشيء نفسه. رأوا القمامة تعلو، كلما علت العمامة. ورأوا أن أركان المشروع الطائفي هم أنفسهم القمامة.
ولئن ظل الطائفيون قادرين على القتل في العراق، فإن نظامهم سقط. اللبنانيون أسقطوه، في تظاهرات لا يستطيع خامنئي أن يمارس فيها هواياته الدموية، بنصب قناصة على رؤوس المباني لقتل المتظاهرين أو بتحريك ميليشياته لسحقهم.
عندما يسقط نظام الطوائف في لبنان، لا أعرف على أي قاعدة سوف يقوم النظام الإيراني نفسه، دع عنك ظله في العراق. لقد سقط المشروع.