لا يختلف اثنان على رداءة الوضع الاقتصادي الذي كان المحرّك الاول للناس للنزول الى الشارع. أمّا وقد بدأت «الثورة»، فإنّ النقاش انتقل الى مكان آخر. هناك كلام مفاده انّ الانهيار وقع فعلاً، وانّ الانتفاضة الشعبية «صاحبة فَضل» في تسريع موعده. في المقابل، تصدر مواقف تعتبر انّ انتفاضة الناس لا علاقة لها بالانهيار، بل انها قد تكون خشبة الخلاص لكارثة لم يكن في الامكان تحاشيها فيما لو استمر الوضع كما كان عليه قبل 17 تشرين.
في توصيف الوضع المالي الحالي، يمكن التوقّف عند الحقائق التالية:
أولاً - الليرة متماسكة نظريّاً (السعر الرسمي للصرف لم يتغيّر)، ومُنهارة فعلياً. وسيصبح سعر الليرة في سوق الصيارفة هو السعر الحقيقي، للعملة الوطنية.
ثانياً - النمو الاقتصادي سلبي (تحت الصفر)، بما يعني انّ حجم الاقتصاد ينكمش بنسبة 1 أو 2 في المئة في السنة.
ثالثاً - إنّ دخول الرساميل الى النظام المالي اللبناني أصبح شبه معدوم، تقابله حركة هروب رساميل توقفت قسرياً من حيث المبدأ، منذ 11 يوماً، بسبب الاقفال. وللعِلم، أوقفت المصارف عمليات التحويل الالكتروني التي كان يمكن للمودع ان يقوم بها من دون الحاجة الى الذهاب الى المصرف.
رابعاً - إنّ توافر المال لتسديد استحقاقات الدين والانفاق أصبح شحيحاً. وهناك تساؤلات حول إصدار الملياري دولار الذي أطلقته وزارة المالية قبل الانتفاضة. فهذا الاصدار، إذا توقف، ستصبح قدرة الدولة على الاستمرار في تمويل إنفاقها موضع شك.
في الخلاصة، الوضع المالي وصل الى مرحلة اللاعودة. وهذا يعني انّ المصارف التي أقفلت أبوابها لن تكون قادرة على العودة الى العمل، اذا لم تحصل صدمة إيجابية من العيار الثقيل. واقعيّاً، ما يجري في السوق المالي حالياً يشبه الى حد بعيد ما يحصل عادة في الدول التي تتعرّض لأزمات الافلاس، إذ تغلق المصارف أبوابها، ومن ثمّ تبدأ مرحلة جديدة لتطبيق ما يُعرف بالـ (capitals control) مؤلفة من 3 إجراءات أو بنود. البند الأول يقضي بتحديد سقف للسحوبات المالية (من ماكينات الدفع (ATM) أو عبر الكونتوار)، البند الثاني ينصّ على تجميد حرية التحويل في سوق العملات، والبند الثالث تُمنَع بموجبه التحويلات الى الخارج. وبالتالي، ما يجري حالياً هو انّ القطاع المالي اللبناني يعتمد بندين من أصل ثلاثة في عملية مراقبة الرساميل. واذا حان وقت إعادة فتح السوق المالي، من دون صدمة إيجابية تُغيِّر المزاج الشعبي العام، سيضطر النظام المالي الى تطبيق البند الثالث لجهة منع التحويلات الى الخارج، وسيكون ذلك بمثابة إعلان رسمي للانهيار.
ما أنجَزته الانتفاضة على المستوى المالي هو التالي: دفعت في اتجاه انكشاف إضافي في الوضع المالي، بمعنى أنها أوصَلت الامور الى مكان اللاعودة. هذا الامر قد يصبح إيجابيّاً، كما يستطيع ان يتحول الى كارثة. وبالتالي، لم تعد السلطة الحالية قادرة على العودة الى الحياة الطبيعية من دون المجازفة بحصول الانهيار المالي الفوري. وأصبحت مضطرّة، اذا كانت لا تريد هذا الانهيار، أن تقوم بخطوات تغييرية تُضفي على المزاج الشعبي الارتياح. وهذا الأمر يصعب تحقيقه من دون حكومة تكنوقراط جديدة، توحي الشخصيات التي ستتولى المهام الوزارية فيها بالثقة للناس.
البعض هنا يسأل ماذا فعلت الانتفاضة؟ وإذا كانت قد أوصلتنا الى مكان صرنا معه مضطرّين الى تغيير حكومي فقط من أجل منع الانهيار والعودة ربما الى المكان الذي كنّا فيه قبل 17 تشرين، أي في عمق الأزمة الاقتصادية التي كانت تنهش البلد، وتدفعه ربما ببطء لكن بثبات نحو الهاوية؟
الواقع، أنه لو افترضنا انّ الانتفاضة لم تحصل، وانّ الحكومة السابقة قررت أن تستقيل لتشكيل حكومة تكنوقراط لإدارة الأزمة. هل كان ذلك يعني تجميد الانهيار، والحصول على النتائج نفسها التي قد نحصل عليها اليوم اذا قررنا تشكيل حكومة تكنوقراط من مستقلّين وأصحاب كفاءات؟ الجواب لا. لأنّ الانطباع الذي يَتكوّن من تشكيل حكومة تكنوقراط قبل الانتفاضة، لن يكون بالايجابية نفسها بعدها. في الحالة الاولى، قد يكون التفسير المُرجّح انّ السلطة السياسية شاءت الهروب من مسؤولياتها على أبواب الانهيار، فجاءت بحكومة تكنوقراط لتكون في الواجهة عند وقوع الكارثة. كذلك، ستكون حكومة التكنوقراط ضعيفة ومَمسوكة من القوى السياسية. وبالتالي، قد تكون شبه مشلولة وغير قادرة على أيّ إنجاز إنقاذي. أمّا الحالة الثانية، أي الولادة تحت ضغط الشارع، فتعطي الانطباع بأنّ التغيير قد حصل، وتُريح الناس في الداخل والخارج. كما انّ حكومة تكنوقراط بوجود ضغط الشارع تكون أكثرر تحرراً من سَلبطة القوى السياسية، وتصبح قادرة على الانجاز.
في النتيجة، البلد اليوم أمام خيارين لا ثالث لهما: إعلان الانهيار من خلال عدم القيام بأيّ صدمة إيجابية، أو تأخير الانهيار عبر حكومة تكنوقراط. وبعد ذلك، لكل حادث حديث، لأنّ المعالجات طويلة ومُكلفة وموجعة، وكل من يقول عكس ذلك يضحك على الناس.