من يفهم أن ما يحصل في الشارع هو حركة مطالب معيشية، فقد شاهد السطح ولم ينظر في العمق. ومن سمع الشتَّامين ليستنتج أنها مظاهرة غوغاء، لم ينظر في إصرار الكلمات وجرأة التحدي في أعين المتظاهرين. من نظَّر على المتظاهرين بأنهم لا يحملون مشروعاً ولا برنامجاً ولا رؤية لهم، فما يزال أسير نخبويته وعقدة تمايزه واصطفائه ويعيش عالماً متخيلاً ومنفصلاً عن الواقع. من توجس منهم خوفا على المقاومة لم يدرك أن المقاومة نفسها تصحو على سوء استعمالها وتخلع عنها ثوبها المنتهَك لتعود إلى أصل شرعيتها وتنبعث من جديد بين حشود الوطن الثائر.
الصمت يخيم على جميع القوى والقيادات السياسية، لا تصدق ماذا يحصل وكيف ظهرت هذه الجموع ومن أين جاءت؟ اعتبرت هذه القوى أن نتائج الانتخابات النيابية كانت تفويضاً وانقياداً كاملاً لها، وأخذت تتصرف على هذا الأساس. فتمادت في سوء الأداء والمحاصصات والمحسوبيات والزبانئية والنهب. بل تمادت في الاستخفاف بعقول الناس واللامبالاة بمصالحهم. لم يدرك هؤلاء أنها كانت فرصتهم الأخيرة، وأنهم الصورة الأخيرة من العهد البائد، وحلقة منسية من ذاكرة اللبنانيين ستكون بمثابة صفحة تاريخ مطوية في التاريخ اللبناني.
لسنا أمام حشود أو جماهير، بل أمام إرادات ترفض أن تصير إرادة مُدمجة أو تعبير واحد، تصر على تنوعها واختلافها وألوانها وطرق تعبيرها المتنوع والجميل والغريب. مشهد حياة يتدفق بصور مختلفة، وجع يعبر عن نفسه بفرح، ألم راقص، احتجاج خلاق، استمرار عنيد، اندفاع مقتحم، وعي مدهش، اختلاف جامع، تعدد موحَّد، تنوعٌ فنان، تعبيرٌ مشرِّع، وجود مكثَّف.
هذه الصور لا يمكن اختزالها بعبارة المعارضة، أو مجرد كونها حركة لتغيير القوى وتبديل المشهد السياسي، بل لا يمكن أن يكون تغيير النظام غايتها النهائية. هذه الصور هي علامات ودلائل على انبثاق حياة جديدة منبعثة من قلب الصغير وطموح الشاب وعقل الكهل، الذين حسموا خيارهم لا بتغيير من يمثلهم بل بصناعة واقع مختلف، مدى وجود جديد، خلق معنى غير مسبوق. هذا يترجم نفسه، بارتحال كامل عن مشروعية فقدت كل مسوغات استمرارها، إلى مشروعية مختلفة تلبي التوق المتوثب للحياة الحرة، عقد اجتماعي آخر، أساس إجماع مجتمعي مختلف، مجال عام تحركه قواعد جديدة، فضاء سياسي يتسع للجميع ويفسح الطريق لانتظام سياسي مبتكر.
قد لا يتحقق ذلك كله دفعة واحدة، وقد يحتاج إلى مقدمات وشروط إمكان تردم الهوة بين المتوقع والفعلي، إلا أن هذه الروح لا تقاس نجاحاتها بزمن خاص، أو بقدرتها على إسقاط العهد الحالي أو حتى إقالة الحكومة، فهذه ثمار عاجلة وأنية، قد يتسبب تحققهاع زخماً موضوعياً ويهب الثوار معنويات عالية، إلا أنها لا تتوقف عليها ولا تتتهي عندها.
ما يحصل هو أفق جديد لا يحتاج إلى من يرشِّده أو يوجهه أو يرسم له طريق خلاصه، هو أفق مولد لذاته ويخلق حاضره ويتولد مستقبله من داخله. أفق يمتد لأجيال وعقود، أفق يطوي صفحة واقع قائم وأنماط تفكير وأطر علاقات وتضامنات وصلت إلى طريق مسدود، ويفكك واقعاً أنتج هويات قلقة خائفة عدوانية متضخمة، هويات قاتلة عنيت بالموتى أكثر من عنايتها بالأحياء، أَنْسَتْنَا وطننا وكبتت إنسانيتنا وأَلْهَتْنَا بإنجازات وهمية وكاذبة. أفق يخرج من طائفيته بعدما أغرت اللبنانيين بأنها مصدر أمانهم وقوتهم فإذا بهذه الطائفية تصيرهم رقماً في جدول وصوتاً أخرس وعصبية جاهلية، وتتخذ أبشع أشكال العلاقات الزبائنية بين زعيم متخم بالمال والسلطة والهيبة وفرد مستلب القرار والرأي.
أفق ينتج ديمقراطية حقيقية لم تتحقق بعد، ولم نعرفها أو نمارسها أو نعيها وفق أصلي الحرية والمساواة الذين يقتضيانها. أدرك اللبناني أن هزليات التمثيل الإنتخابي جعلت منه شاهد زور، وسيلة مصادرة لقوله، إلغاء لعقله وتفكيره، فصل بينه وبين صناعة مصيره، ترسيخ لوصايات أجنبية مبطنة.
أفق يأخذنا لأول مرة إلى وطن نتحسس انتماءنا إليه من دون تردد أو حواجز أو وسائط. أفق يخلق داخل هذا الوطن هويات جديدة وصور علاقات مبتكرة وقوة تقويض لأية مركزية وطاقة تجاوز لهويات تغولت واستنزفت موارد الدولة وشلت قدراتها. أفق يكنس بقايا أعراف وقيم باتت تختزن سقوطاً أخلاقيا وهزالة معنى وعبودية مبطنة، ويفسح الطريق لا لولادة قيم جديدة فحسب بل القدرة على إبداع القيم.
إنها ثورة أكبر من احتجاج معيشي أو مطلب سياسي، وأهم من تبديل القوى السياسية، وأبعد بكثير من تغيير النظام.