قال لي دبلوماسي غربي بعد أن استمع إلى كلمة الرئيس ميشال عون، التي جاءت رداً على مطالب المتظاهرين في كل لبنان، الذين قالت «رويترز» إنهم يعلنون أهم ثورة في التاريخ: «لبنان بات في مواجهة سيناريوهات حاسمة، إنني عندما أنظر إلى الشباب اللبنانيين يقومون صباحاً بتنظيف ساحات الاعتصام، أرى أنهم يكنسون كثيراً من الأوهام المحطمة والحسابات المحطمة ومعالجات الحطام».
كان هذا أفضل توصيف للوضع المتفجر في لبنان، بعدما خرج أكثر من مليوني مواطن إلى الشوارع والساحات وتظاهروا لمدة 10 أيام، وفي أكثر من 20 بلداً حول العالم، مطالبين بتغيير جذري ينهي الفساد ويحاكم الطقم السياسي الغارق في السرقات والنهب، والذي أوصل البلاد إلى حافة الإفلاس!
10 أيام ليخرج رئيس الجمهورية بمروحة من الوعود، سبق للناس أن استمعوا إليها ولم ينفذ شيء منها، بعدما كان الرئيس سعد الحريري سبقه الثلاثاء ووقف في القصر الجمهوري ليقرأ ورقة إصلاحية من 25 بنداً، رفضها المتظاهرون، لأنها جاءت مجرد وعود متكررة، وليس هناك من يضمن تنفيذها، لأن السياسيين الذين كانوا وراء الفساد وأوصلوا البلاد إلى ما هي عليه، هم الذين سيناط بهم إصلاح ما أفسدوه!
وكالة «بلومبرغ» سارعت إلى وصف خطة الحريري، بأنها تأجيل ليوم الحساب، وأن لبنان يتجه إلى جدولة الديْن بعد 3 سنوات، بينما حذّرت مؤسسة «موديز» للتصنيف من أن الثقة بقدرة الحكومة اللبنانية على خدمة ديونها قد تتقوض بدرجة أكبر بسبب خطة الحكومة لإجبار البنوك على القبول بفائدة أقل على ديْنها.
كل هذا يعني أن خطة الحريري ووعود عون، جُوبِهتا بالرفض الحاد، سواء من المتظاهرين الذي يهتفون «ثورة ثورة… كلن يعني كلن»، بمعنى المطالبة برحيل كل الطقم السياسي في البلاد، وهو أمر ليس من السهل الوصول إليه خوفاً من فراغ طويل، يضاف إلى انهيار اقتصادي يقرع الأبواب، وأيضاً من مؤسسات التصنيف الدولية، ما يوسّع دائرة المخاوف من أن تكون مقررات «مؤتمر سيدر» قد سقطت بعد التطورات الدراماتيكية في بيروت!
قياساً بمطالب الشعب والمتظاهرين، يفترض أن يذهب لبنان إلى التجربة الماليزية مثلاً، ففي 10 مايو (أيار) من عام 2019 تولى مهاتير محمد رئاسة الوزراء، وبعد يومين في 12 مايو أقفل المطارات والحدود وألقى القبض على سلفه نجيب إبراهيم، وعلى 9 وزراء، و144 رجل أعمال، وعلى 50 قاضياً، و200 شرطي، وأعاد إلى الخزينة الماليزية 50 مليار دولار في 5 أيام.
لكننا في لبنان الذي قالت «واشنطن بوست» و«وول ستريت جورنال»، يوم الخميس الماضي، إن وزارة الخزانة الأميركية استطاعت القيام بإحصاء على المصارف والمؤسسات والشركات التابعة للسياسيين وأتباعهم في لبنان وخارجه، واكتشفت أن الأموال المسروقة والمودعة في الداخل والخارج بين عامي 1982 و2019 بلغت 800 مليار دولار، طبعاً ليس في وسع «السلطة الفاحشة» أن تقوم باسترداد هذه المبالغ الخيالية، لأن الأيدي التي سرقت، هي تقريباً في معظمها الأيدي التي يفترض أن تحاسب، وهو ما يعيدنا مرة جديدة إلى قول إدوارد غابريال من «تاسك فورس» الذي كان قد أنهى قبل أشهر زيارته إلى بيروت ولقاءاته مع المسؤولين بالقول: «لا يمكنكم تنظيف البيت بالممسحة الوسخة».
الشعب اللبناني الذي أعلن الثورة يطالب عملياً بتغيير هذه الممسحة، لكن هناك محاذير دقيقة تمنع الوقوع في الفراغ، ولهذا فإن كلمة واحدة في خطاب الرئيس عون أوحت بإمكان فتح الباب على حلٍ، ولو مرحلياً، عندما أشار إلى فكرة تعديل حكومي، وهو الأمر الذي تدور حوله نقاشات سياسية متصاعدة، وخصوصاً بعد استقالة وزراء «القوات اللبنانية» الأربعة، وتلويح الحزب التقدمي الاشتراكي أيضاً باستقالة وزرائه؛ حيث كان النائب السابق وليد جنبلاط قد اعتبر أن الإصلاحات التي اعتمدت هي مخدرات واهية، وأن بيع القطاع العام جريمة، مخاطباً رئيس الحكومة بالقول: «إلى متى يا شيخ سعد ستبقى على هذا التفاهم، الذي دمر العهد، ويكلفنا من رصيدنا كل يوم، أوليس من الأفضل تعديل الحكومة وإخراج رموز الاستبداد والفساد منها؟»، في إشارة واضحة أولاً إلى التسوية السياسية التي جاءت بعون رئيساً للجمهورية، وثانياً في تهديف واضح إلى صهره الوزير جبران باسيل، الذي يعتبر من رموز التحدي والاستفزاز في لبنان.
ليس من الواضح إلى أين تتجه الأمور، وخصوصاً بعد رفض المتظاهرين وعود عون والحريري، والاستمرار في إعلان الثورة، والدعوة إلى تشكيل حكومة من الاختصاصيين غير الحزبيين، تتولى التمهيد لإعادة تشكيل السلطة، لكن بالعودة إلى ما أفرزته المظاهرات العارمة المستمرة في لبنان، يمكن فعلاً الحديث عن مجموعة من الأوهام وعناصر التخويف التي سقطت، ووصفها السفير الغربي كحطام يجري كنسه في الساحات...
أولاً؛ سقطت كل أوهام الحديث عن إمكان حصول انقسامات طائفية ومذهبية، طالما راهن عليها البعض ونفخ في جمرها البعض الآخر، إسقاطاً لمطالب الشعب بالتغيير، ذلك أنه في الساحات والمغتربات التي جمعت أكثر من 3 ملايين متظاهر لم يرتفع فيها إلا العلم اللبناني، ووقف المسلم إلى جانب المسيحي والدرزي، وكان النشيد الوطني جامعاً الكل، حتى طرابلس العاصمة الثانية التي قيل عنها يوماً إنها قندهار لبنان، كانت عروس الثورة بامتياز، وجمعت كل الطوائف والمذاهب في ساحة يعمها الفرح!
ثانياً؛ وهو الأهم أن المظاهرات عمت المدن والبلدات التي تعتبر معقلاً لـ«حزب الله» مثل النبطية وصور وبعلبك وبنت جبيل، وبدت هذه المظاهرات رغم محاولات قمعها بالقوة يوم الأربعاء الماضي، رداً مباشراً وغاضباً على كلام حسن نصر الله، الذي كان قد قال إن الحكومة لن تسقط، وإن العهد لن يسقط، طبعاً على خلفية التحالف بين الحزب ورئيس الجمهورية.
ومع استمرار المظاهرات في المناطق الشيعية، بدا الأمر موجهاً ضد نصر الله وتهديده بالنزول إلى الشارع لتخويف الناس، وهو ما يحطم حقبة من الخوف، دفعت مجلة «فورين بوليسي» يوم الأربعاء إلى القول إن النفوذ الإيراني يتهاوى من العراق حيث تقوم المظاهرات علناً ضد الهيمنة الإيرانية، إلى لبنان حيث ترتفع صرخات الرفض والغضب في وجه «حزب الله»، الذي يحاول القول إنه يحارب الفساد، في حين توجّه إليه تهم في عقر داره بالفساد.
ثالثاً؛ سقط الرهان على وضع الجيش في مواجهة الثورة لقمع الناس، وبدا حديث قائد الجيش جوزيف عون يوم الثلاثاء الماضي، عندما تحدث عن العلاقة التفاعلية والحيوية بين الجيش والشعب، وكأنه في العمق يطرح ثنائية وطنية في مواجهة ثلاثية الجيش والشعب والمقاومة، التي يتمسك بها «حزب الله»، وكان مشهد الجنود الذين أرسلوا لفتح الطرق، وهم يذرفون الدموع إلى جانب المتظاهرين أعمق تعبير عن هذا التحوّل المهم.
رابعاً؛ ليس قليلاً أن ترتفع أصوات المرجعيات الروحية على مستوى معظم الطوائف مؤيدة الانتفاضة العارمة، ليقول البطريرك بشارة الراعي من بكركي علناً إن السلطة أمعنت في الفساد والانحراف، في حين قال المتروبوليت إلياس عودة إن الفراغ الذي يهددون به أفضل بكثير من الوضع الحالي، وأعلن المفتي عبد اللطيف دريان أن الناس عانت كثيراً من الفساد في السلطة، بينما قال شيخ العقل نعيم حسن إنه ليس من حق أحد أن يستهين بمطالب الشعب، وبهذا الغضب من فساد السلطة.
خامساً؛ يوم الثلاثاء أبلغ سفراء مجموعة الدعم الدولية الرئيس الحريري، أن على السلطة اللبنانية أن تستمع جيداً وعميقاً لمطالب المتظاهرين الشرعية، وإذا كانت الانتخابات المبكرة من مطالبهم، فإن صوتهم وحده الذي سيقرر.
8 أيام في انتظار كلمة من رئيس الجمهورية، الذي أطلّ ليكرر مروحة معروفة من وعود الإصلاح بعد اللائحة التي قرأها الحريري، لكن ذلك لا يصنع حلاً، لهذا ليست السلطة وحدها في الزاوية تواجه الغضب الشعبي العارم، بل أيضاً «حزب الله» الذي يواجه رفضاً داخل بيته وفي معاقله بما يعرّي التحالف مع عون.
نعم، الحطام السياسي والحزبي يملأ ساحات الانتفاضة اللبنانية العميقة، وليس من مخرج سوى استقالة الحكومة أو تعديلها جذرياً أو الذهاب إلى الفوضى والانهيار!