على رغم أنّ الغضب الشعبي ينطلق من أسباب معيشية - إقتصادية، إلّا أنّ للأزمة التي فجّرت ثورة اللبنانيين أسباباً سياسية أيضاً. وفي حين تُعتبر كلّ القوى السياسية سواسية بالنسبة الى الشارع في هذه المرحلة، لا شكّ في أنّ كثيرين من المتظاهرين كانوا أو ما زالوا يؤيّدون أحزاباً وتيارات سياسية مشاركة في السلطة، قد يعدلون عن هذا التأييد قولاً وفعلاً في الانتخابات النيابية. لكن هذا لا يعني أنّهم سيتخلّون عن اقتناعاتهم السياسية. فالنقمة على ممارسة الحُكم لا تشمل بالضرورة مبادئ الأحزاب التي يؤيّدونها.
بين الناقمين، هناك من يريد حصر السلاح في يد القوى الشرعية، ويعتبر أنّ لا قيام للدولة في ظلّ تحكُّم طرف واحد بقرار الحرب والسلم. وهناك من يعتبر أنّ هذا السلاح «مقدّس» ولا تشمله النقمة. كذلك، يرى كثيرون أنّ «الحريرية السياسية - الإقتصادية» المُعتمدة منذ التسعينيات هي أبرز أسباب ما آلت إليه الأحوال.
على صعيد القوى السياسية، لا تبدّل في الإقتناعات، ولا في سياسة رمي المسؤوليات على الطرف الآخر. تيار «المستقبل» يعتبر أنّه «لولا سياسات الرئيس الشهيد رفيق الحريري لكان وضعنا أسوأ بكثير». وتسأل مصادر «التيار»: «هل كان المطلوب عدم الإعمار؟ عدم تجديد البنى التحتية والطرقات وتوسيع المرفأ والمطار وبناء المدارس...؟ وكيف يُمكن من دون إعداد أرضية قابلة للاستثمار جذب أيّ مستثمر الى بلدٍ خرج مُدمّراً من حرب أهلية؟».
وتعتبر أنّ «وجود «حزب الله» كميليشيا مسلحة هو السبب المركزي لتدمير كلّ مفاعيل ما عمل عليه الرئيس الشهيد رفيق الحريري، ولو لم يُقحِم «الحزب» لبنان في سياسة المحاور والحروب المتكررة، ولولا اغتيال المعارضين بعد عام 2005، لأنّ لبنان كان عاش بحبوبة وشهد نمواً اقتصادياً». وتسأل: «ما هي السياسات البديلة؟ سياسة المقاومة؟ أو سياسة اشتراكية؟».
«التيار الوطني الحر» الذي دأب في تحميل «الحريرية السياسية» مسؤولية فشل الدولة، يُشارك الرئيس سعد الحريري في الحُكم، ولم يُظهر اعتماده سياسة مختلفة منذ عام 2005، حتى بعد وصول العماد ميشال عون الى رئاسة الجمهورية وتكوين «التيار» أكبر كتلتين نيابية ووزارية. لكن «التيار» استمرّ في رفع أيّ مسؤولية عنه. وكان يردّد المسؤولون في «التيار» ما قبل 17 تشرين: «نحن لا نفتح دفاتر الماضي، بل نقول إنّ هناك أزمة وقعنا فيها بسبب سياسات معتمدة منذ 30 سنة ولم نكن شركاء فيها، لكنّنا نعتبر أنفسنا اليوم شركاء في البحث عن حلٍّ لها، وفي إنقاذ البلد وفقاً للرؤية التي اتُفق عليها في ورقة لقاء بعبدا».
أمّا «القوات اللبنانية» الخارجة من الحكومة حديثاً، فتركّز في هذه اللحظة على أنّ الثورة هي «ثورة كلّ الشعب اللبناني الذي توحّد حول المطلب المعيشي... ليست ثورة القرار 1559 وخروج الجيش السوري من لبنان، وليست ثورة الدولة والدويلة أو أي قضية سياسية أخرى».
وتعتبر مصادر قواتية، أنّ «غياب إرادة الإصلاح لدى أطراف الحكومة من الأسباب الرئيسية التي فجّرت النقمة الشعبية. فمن خلال أدائهم السيئ وتصويتهم على موازنة 2019 أوصلوا البلد الى الوضع الراهن، إضافةً إلى أنّه في لحظة مواجهة أزمة إقتصادية كبيرة كان هناك من يصفّي حسابات سياسية ويأخذ البلد إلى مكانٍ آخر، ومن يطرح مواضيع خلافية مثل زيارة سوريا أو قانون انتخاب جديد. وبدلاً من أن تكون الأولوية من طبيعة إقتصادية، تحوّلت الى طبيعة انتقامية لتصفية حسابات سياسية والعمل على وضع خطة رئاسية لتصفية الخصوم».
على رغم اتخاذ النقمة الشعبية الطابع المعيشي، إلّا أنّ نظرة قوى 14 آذار، قيادات وقاعدة، الى سلاح «حزب الله» ودوره لم تتغيّر. نظرة يؤيّدها كثيرون حتى لو لم يكونوا منتمين لأيّ حزب من أطراف 14 آذار. إذ لا يُمكن بناء دولة وإقتصاد تحت «رحمة» السلاح وقرار فردي قد يُدمّر كلّ ما يُتخذ من قرارات وإجراءات إصلاحية وتنموية. وفي مرحلة ما بعد عام 2005، يشيرون الى: تكلفة حرب تموز 2006 وتداعياتها الإقتصادية، أحداث 24 و25 كانون الثاني 2007، إجتياح بيروت في 7 أيار 2008... تعطيل المؤسسات الدستورية تارةً للإتيان برئيس للجمهورية وطوراً لتوزير حليف...غياب الدولة عن بعض المناطق بسبب «غطاء السلاح» وتفلّته، الدخول في محاور وحروب إقليمية تعرّض لبنان لمخاطر العقوبات وتزعزع علاقاته العربية والغربية... الإستفادة من المعابر الشرعية وغير الشرعية لإدخال وإخراج الأموال والمقاتلين...».
وإذ يلفتون إلى اعتداء منتمين لـ«حزب الله» على المحتجين السلميين في النبطية وبيروت، يشدّدون على أنّ «إستعادة القرار السيادي هي مدخل كلّ المعالجات السياسية والإقتصادية، لكي تكون الدولة «للكلّ وعلى الكلّ».
قد تنحصر ثمار «ثورة 17 تشرين» بالضربة التي خلخلت «تجذّر» السلطة، وشكّلت تحذيراً لها بأنّ الاستمرار في اعتماد نهج الحكم نفسه سيُشعل انتفاضة جديدة تشكّل الضربة القاضية. وقد تنجح الإحتجاجات المتعدّدة الإنتماءات في تحقيق مطلب استقالة الحكومة وتأليف حكومة إختصاصيين من خارج هذه السلطة. وقد يحقّق الغضب الشعبي أهدافاً أبعد من حدود الحكومة، تشمل مجلس النواب، وقد تصل إلى كرسي رئاسة الجمهورية. وقد تكون مرحلة «ما بعد 17 تشرين» أفضل ممّا قبله على صعيد تحسين أوضاع البلد والناس، وقد لا تتحقّق هذه الآمال. أياً كان السيناريو المُرتقب، وإضافةً الى طروحات إسقاط النظام وتعديل الدستور... ستفرض الواقعية العودة الى الطروحات السياسية ما قبل 17 تشرين الأول 2019. فسلاح «حزب الله» لن يسقط بسقوط السلطة، ونهج الفساد في الدولة وحتى القطاعات الخاصة لن يجرفه الغضب الشعبي إذا لم يُحاكَم الفاسدين والمفسدين الكبار. كذلك ستطفو مجدداً النقاشات حول السياسات الإقتصادية المُعتمدة منذ 1990.