مَن يَسمع ما يقوله أركان السلطة هذه الأيام يمكنه إدراك ما جرى من أحداث خلال الأسبوع الأول من الانتفاضة، وما هو متوقَّع. فمن الواضح أنّ السلطة تتدرَّج في استخدام الأساليب لإحباط الانتفاضة، على النحو الآتي:
1- في اليومين الأولين، كان رهان السلطة على إظهار الانتفاضة، عملاً استعراضياً سينتهي سريعاً. لذلك، وعد الحريري بمهلة 72 ساعة لاتخاذ موقف.
2- في اليوم الثالث، تصاعدت النقمة، فخرج مجلس الوزراء بما سمّاه «ورقة الإصلاحات» التي كُتبت عشوائياً ومن دون أي درس، وهي لا تتضمّن سوى عناوين، بعضها غير قابل للتنفيذ وبعضها الآخر من نوع الخِدَع الجديدة - القديمة.
3- كانت السلطة قد حضَّرت نفسها لمرحلة ما بعد «الورقة» بالترغيب والترهيب: الترغيب في «الإصلاح» المزعوم، والترهيب بـ«الزعران». ففي اللحظة التي انتهى فيها الأمين العام لمجلس الوزراء من تلاوة «المقرّرات»، بدأت حملة ضغوط ميدانية قوامها «الموتوسيكلات»، أولاً. لكن الجيش أحبطها سريعاً وبحزم.
4- في الأيام الثلاثة الأخيرة، لم يبقَ لبعض السلطة إلّا المراهنة على دور قمعي، أو ترهيبي على الأقل، للقوى الأمنية الرسمية، لكن الجيش ماضٍ في النهج الذي عبّر عنه في بيانه، والذي يتضمّن اعترافاً نادراً بأحقية مطالب الناس، إضافة إلى دوره الطبيعي في حماية الجميع: البلد والمؤسسات والشعب.
5- ظهرت ملامح افتعال انشقاقات بين الموجودين في الشارع، بإعادة فرزهم وإذكاء النعرات التقليدية في ما بينهم. وقد باءت بالفشل.
6- تزايدت عمليات استهداف الناس أمنياً في مناطق عدة لتصويرهم مشاغبين أو لتخويفهم وإحباط حراكهم.
7- برزت محاولات لفرز شارع مقابل شارع. وهذه العملية خطرة جداً لأنّها تمهِّد لمواجهة بين الناس، أي لحربٍ أهلية. وبالتأكيد لا حظّ لها لأنّها ستظهر أي شارع هزيلاً جداً أمام الحراك الشعبي.
إذاً، حتى اليوم، كل محاولات الإسقاط والإسكات باءت بالفشل. ويقول أحد المعنيين بالانتفاضة: ما كان الرئيس الحريري ليتنازل ويقول شيئاً لولا صمود المنتفضين، وهذا ما اعترف به هو شخصياً.
وكذلك، لم يكن الرئيس ميشال عون يجد ضرورة للخروج عن صمته لولا أنّ الصورة التي ارتسمت أمامه أظهرت أنّ الانتفاضة مستمرة وأنّ مستوى النقمة بين الناس يزداد بسبب تجاهل أصواتهم.
في دولة تنتمي إلى العالم الثالث، وبلد يتوزع أهله على محاور إقليمية متناحرة وطوائف ومذاهب وولاءات زعاماتية متخلّفة، تنجح السلطات والنافذون عادة في شقّ صفوف الانتفاضات الاجتماعية الشعبية وتحوِّل الثورات فِتَناً.
وهذا ما شهده لبنان في معظم النماذج الاجتماعية من ثورة طانيوس شاهين وفتنة 1860 إلى انتفاضات الطلاب وفتنة 1975، وبينهما الكثير. وإذا نجحت الانتفاضة الاجتماعية اليوم، بالكامل، فربما تكون الظاهرة الوحيدة من نوعها منذ الاستقلال.
إذاً، ما هي العوامل التي توفّر اليوم للانتفاضة قدرةً على مواجهة السلطة وقمعها ومحاولاتها لشقّ الصفوف؟
في لحظة معينة، بلغ الاحتقان الاجتماعي وشعور الناس بالمذلة والمهانة حدوداً أعلى من الانتماءات والولاءات. هذا مؤكّد. وظهر ذلك في حجم الغضب الذي عبَّر عنه الناس، أمام الشاشات، ضد زعمائهم جميعاً، حتى داخل الطوائف والمذاهب والأحزاب والتيارات. وهذا الغضب غير مسبوق، وهو الوقود الذي انطلقت به الانتفاضة.
ولكن، بالتأكيد، إنّ حماية هذا المناخ من الخرق، داخلياً وخارجياً، ولاسيما في الجانب الأمني، تتولاها المرجعية الوحيدة المؤتمنة في زمن انهيار المؤسسات، أي الجيش.
وأهمية المؤسسة العسكرية أنّها الوحيدة التي تتمتع بثقة المجتمع الدولي، وتحظى بدعمه لتقاوم الضغوط والمماحكات السياسية أياً تكن. ولذلك، لا يطمئن المنتفضون إليها وحدها، ولا يريدون في أي شكل أن يستدرجهم أحد للوقوع في فخّ التصادم بين الجيش والناس فينهزمان معاً وتنتصر منظومة الفساد.
هذا الواقع يدركه أركان هذه المنظومة. لذلك، هم رسموا حدوداً لضغوطهم، سواء على المنتفضين أو المؤسسات العسكرية والأمنية، ويدركون أنّ تصلُّبهم هنا سيعرِّضهم لنقمة عارمة من المجتمع الدولي يدفعون ثمنها غالياً.
وثمة خيارات عديدة يجري تداولها في العديد من الأوساط حول هذه المسألة، لكن المتابعين يرجّحون ألاّ تصل الأمور إلى حدّ استخدام مواد في القانون الدولي وأنظمة الأمم المتحدة وقرارات مجلس الأمن الدولي، ومنها الفصل السابع، ضد الدولة اللبنانية، لأنّ تكاليف ذلك ستكون باهظة.
وزيارات سفراء مجموعة الدعم الدولية للسراي قبل أيام، وممثل الأمين العام للأمن المتحدة يان كوبيتش للقصر أمس، تحمل تعبيراً واضحاً عن اهتمام المجتمع الدولي بمسار الأحداث في لبنان.
ولذلك، ثمة من يتوقع أن يواصل أركان السلطة محاولاتهم للتهرُّب من الاستحقاقات الحقيقية حتى إشعار آخر. وهذا يعني أنّ الناس أيضاً ستمضي في انتفاضتها تصعيداً.
حتى اليوم، كل الأمور ماشية «من دون غلط». فلا الانتفاضة تتجاوز الخطوط الحمر ولا السلطة. وفي الحدّ الأقصى، حاول الجيش فتح بعض الطرق الرئيسية، بالأساليب الناعمة جداً. لكنه، عندما اصطدم بإصرار الناس، تراجع.
وفي هذه الحال، سيكون البلد في حالٍ من المراوحة إلى أن تطرأ معطيات تفرض تحوّلاً جديداً. ولكن، على الأرجح، لا يمكن لأركان السلطة إلّا الهبوط في تنازلات تدريجية ستقرّر الأحداث طبيعتها وحدودها.
لكن التحدّي هنا يكمن في المدى الزمني الذي ستستغرقه هذه العملية. فهل يتحمّل البلد استمرار المراوحة الحالية فترة طويلة غير محدَّدة؟ وخلال هذه الفترة، هل يبقى الوضع تحت السيطرة سياسياً واقتصادياً ومالياً ونقدياً... وأمنياً، أم تنشأ معطيات تخلط الأوراق وتقلب الطاولة بما فيها ومَن فيها؟
بعبارة أخرى: هل يَطْمَئِنُّ اللبنانيون إلى أنّ استقرارهم ما زال ممسوكاً أم أنّ هذه المقولة على وشك الاهتزاز؟