الاستقالة في السياسة باب من أبواب الكرامة. عندما يستقيل المسؤول بسبب خطأ أو تقصير أو عجز، يعني ذلك أنه يعرف معنى المسؤولية، ويُدرك بُعدها الأخلاقي. أعرف قصتين، واحدة من القراءة مثل جميع الناس، والثانية على صعيد شخصي: وزير الدفاع البريطاني جون بروفيومو، ورد اسمه في فضيحة جنسية، فاستقال. والخبر ليس هنا. الخبر أنه أمضى بقية عمره متطوعاً في العمل الاجتماعي تكفيراً عما فعل، حتى لحظة وفاته.
المصادفة أن الرجل الآخر كان أيضاً وزيراً للدفاع، المستر جوناثان إيتكنز. دخل إيتكنز السجن بتهمة قبول الرشوة من محمد الفايد. وفي السجن كان يمسح البلاط وينظف الحمامات عندما يجيء دوره في ذلك.
عندما انتهت مدة عقوبته، دخل سلك الكهنة لكي يخدم في السجون. وكلما أفكر فيه، أفكر في عظمة الندم. وأفكر في السياسيين اللبنانيين والعرب الذين وردت أسماؤهم في مئات السرقات والنهب والاحتيال. رؤساء إسرائيل ورؤساء وزرائها دخلوا السجون وخرجوا من السياسة بلا عودة.
بدأت الانتفاضة الحالية في لبنان تحت شعار ضريبة الـ«واتساب» التي فرضها وزير الاتصالات محمد شقير، الذي يشغل، للمرة الأولى، منصباً حكومياً. طبعاً هناك ألف سبب آخر. تتحدث نظريات العلوم السياسية دائماً عن «الأسباب القريبة والأسباب البعيدة». فالحرب العالمية الأولى لم تنفجر بسبب اغتيال أرشيدوق النمسا، لكن هذا كان الفتيل.
أي فكر سياسي بسيط كان يقضي بأن يسارع محمد شقير إلى الاستقالة لكي يشعر الناس بأن الحكومة تدرك مدى العسر الذي تمر به البلاد. لكنه لم يفعل، معتقداً أنها مظاهرة وتمُر. والأسوأ أن الرئيس الحريري لم يطلب منه الاستقالة، ودفع ثمن هذا الجهل السياسي. وهكذا تحولت المظاهرة إلى ثورة عارمة ضد جميع رعونات السياسة وضد فجورها ولجاجتها وازدراء كرامات الناس وأرزاقهم وحقوقهم.
أعتقد أن استقالة وزير الـ«واتساب» في لحظتها كانت ستلجم قليلاً الاندفاع الجماهيري. أما الآن، فلم تعد الناس ترضى بأقل من استقالة الحكومة كلها... وسوف تضع شروطاً صعبة على تشكيل الحكومة المقبلة. وأتمنى – مثل كل لبناني – ألا تعاند الدولة هذا المد العفوي، وألا تشعر بالهزيمة في تلبية بعض رغبات الناس. وإلا فإن البديل هزيمتنا جميعاً. المسألة هي الأسباب البعيدة.