لا يمكن أحد إنكار واقعية وأحقية ما يرمي اليه المتظاهرون، كما المسؤولون في السلطة، أو غالبيتهم على الاقل، لا ينكرون لهؤلاء ان ما يطالبون به حق، وانّ الوجع الذي يعبّرون عنه موجود ومتراكم منذ عشرات السنين، ولكن نقطة التناقض، بل الاختلاف، بين المتظاهرين وهؤلاء المسؤولين والسلطة عموماً، هي الورقة الاصلاحية الاقتصادية ـ المالية التي أقرّها مجلس الوزراء قبل أيام تحت ضغط الحراك.
السلطة تعتبر أنّ هذه الورقة كافية ليقتنع المتظاهرون بها حلاً للخروج من الأزمة السياسية والاقتصادية ـ المالية ـ المعيشية، فيما هم يتجاوزونها، او يعتبرونها غير كافية ولا تلبي مطالبهم، وانه يجب ان يكون الحل استقالة الحكومة والإتيان بحكومة إنتقالية لثلاثة أشهر تشرف على انتخابات نيابية مبكرة تُجرى على أساس قانون انتخابي وفق النظام النسبي يَعتمِد لبنان دائرة انتخابية واحدة. وينتُج من هذه الانتخابات سلطة جديدة، في اعتبار انّ استقالة السلطة الحاكمة أو إقالتها الآن مستحيلة لكثير من الاسباب والاعتبارات.
حتى الآن ما زال ردّ الحراك الشعبي على الورقة الاقتصادية البقاء في الشارع ورفع منسوب الضغوط لفرض استقالة الحكومة، فتردّ السلطة في المقابل بتسريب معلومات عن نيتّها اجراء تعديل حكومي من باب تعيين وزراء بدلاء لوزراء حزب «القوات اللبنانية» الاربعة المستقيلين، يُضاف اليهم وزيران جديدان. وهنا تُطرح تساؤلات كثيرة حول هوية هؤلاء الوزراء الجدد والى من ينتمون وضمن أي حصة وزارية سيكونون، خصوصاً انّ التعديل سيشمل وزراء مسيحيين ولن يكون بينهم أي وزير مسلم.
على انّ كل من يتحدث عن هذا التعديل الوزاري يتبادر الى ذهنه إسم الوزير جبران باسيل بالدرجة الاولى، حيث تطالب قوى سياسية بتنحيه لاعتقادها أنّ في ذلك ما يطبّع العلاقات بينها وبين رئيس الجمهورية. فهذه القوى ترى انّ باسيل، بما يتخذه من مواقف وخطوات، اصطدم ويصطدم بها وآخرين، وتتهمه بأنّه في مكان ما «عطّل او أعاق» معالجة ملفات خلافية وغير خلافية كثيرة، سواء في قطاع الطاقة وخارجه أو على مستوى أدائه ومواقفه على رأس الديبلوماسية اللبنانية، وكذلك على رأس «التيار الوطني الحر».
ويقول متابعون، انّ ليس هناك اوهام لدى خصوم باسيل، وحتى لدى القيّمين على الحراك، في انّ رئيس الجمهورية العماد ميشال عون في وارد التخلي عن باسيل الذي هو «أقرب الاقربين» اليه سياسياً قبل موقعه العائلي كصهر للرئيس. وفي المقابل فإن حلفاء باسيل يعترفون بأنه يتحمّل جزءاً كبيراً من المسؤولية عن تمادي الأزمة، ويعترفون بأنّ ما يتحكّم بتصرفاته وادائه داخلياً وخارجياً، هو «طموحه الرئاسي» الذي لا يخفيه اينما حلّ. الاّ انّ اهم ما نجح فيه حلفاء باسيل في هذه الآونة، هو انّهم وبالتعاون مع رئيس الجمهورية، طلبوا منه بعد اطلالته الاعلامية الاخيرة التي سبقت اطلالة الحريري بساعات، ان يلتزم الصمت ازاء كل ما يجري، فإستجاب وما زال صامتاً حتى الآن. ولكن ذلك لم يُزِل ما يُعتمل ضده في صدور خصومه، وحتى في صدور كثير من عامة اللبنانيين، حيث يصرّ البعض بشدة على تنحيته، فيما هو ومؤيدوه يرون في الأمر، اذا حصل، نكسة معنوية له تصيبه أولاً كرئيس لـ»التيار البرتقالي»، وتصيبه ثانياً كمرشح لرئاسة الجمهورية، يعتقد انّ حظوظه للوصول اليها «كبيرة».
إلّا انّ ما رصده المتابعون في خضم الحراك، هو انّ السلطة بدأت تعمل على خطة «ب» في موازاة العمل على تنفيذ الورقة الاصلاحية الاقتصادية، الذي يحتاج الى اسابيع واشهر واكثر من سنة، حسب طبيعة كل بند فيها، وذلك عبر فتح ملف تنفيذ قانون «الاثراء غير المشروع»، فيما الورقة الاقتصادية تتضمن بنداً يقضي بإقرار «قانون استعادة الاموال المنهوبة». وفي الموازاة بدأت مواقع التواصل الاجتماعي على اختلافها تنشر ما يشبه الاشاعات عن توجّه للادّعاء قضائياً على مجموعة من السياسيين، فيما لم يصدر اي شيء رسمي قضائي بهذا المعنى، ما اوحى الى احتمال وجود «جيش الكتروني» جنّدته السلطة أو بدأت تجنّده لمهمات الدفاع عنها في مواجهة الحراك الشعبي والقوى السياسية الداعمة له وتلك التي تتخذ منها موقع المعارضة أو الخصومة.
ولكن المتابعين رصدوا في خضم الحراك انّ بعض القوى السياسية بدأت تتحيّن الفرص للنيل من منافسين لها على استحقاقات مقبلة، سواء عبر فتح ملفات سيمضي وقت طويل للتأكّد من مدى جدّيتها وصحتها ويكون بعدها «من ضرب ضرب ومن هرب هرب».
غير انّ البعض يقرأ خلف الحراك وما يشهده من تجرؤ متظاهرين على مرجعيات ورموز وقيادات بارزة، أنّ هناك أمر عمليات خارجياً لإستغلال هذا الحراك وما يطلقه من صرخات وجع يعيشه اللبنانيون على اختلاف مشاربهم، لدفع البلاد الى مجهول ليُعاد تركيبه وفق مشيئة الخارج واهدافه.
والى ذلك، يرى هذا البعض انّ هذا «التجرؤ المفاجئ» يعكس في مطاويه انّ الخارج ربما يكون رفع الغطاء عن كل الطبقة السياسية اللبنانية سواء الموالي منها له او المعارض، بل ربما يكون رفع الغطاء عن لبنان عموماً تمهيداً لإدخاله بل لإستخدامه ورقة في بازارات التسويات المنتظرة في الاقليم، قبل ان يعاود تركينُه في النظام الاقليمي الجديد الذي سينشأ بفعل هذه التسويات.
المتشائمون بمستقبل الاوضاع والحراك الشعبي يأخذون بإحتمالية رفع الغطاء الخارجي الذي كان اصحابه ينادون، حتى عشية الحراك، بوجوب الحفاظ على الاستقرار اللبناني كحاجة اقليمية ودولية لكل المشتغلين بشؤون المنطقة. اما المتفائلون فيتوقعون انّ الوضع الحكومي الراهن آيل الى التعديل لا الى التبديل الذي لن يكون سهلاً لصعوبة تأليف حكومة جديدة مما قد يُدخل البلاد تحت فراغ حكومي طويل.
ويرى هؤلاء المتفائلون، أنّ الأوضاع آيلة الى تعايش بين الحكومة والحراك الى أجل غير مسمّى، بحيث يستمر الحراك في الساحات مبتعداً عن اسلوب اقفال البلد بطرقه ومؤسساته، وضاغطاً أكثر فأكثر لمحاصرة الفساد ومكافحته، ودافعاً الحكومة الى تلبية مزيد من المطالب الشعبية بما يتجاوز الورقة الاصلاحية الاقتصادية، توصلاً لإستعادة الأموال المنهوبة، وكذلك الدفع في اتجاه تحقيق اصلاح سياسي عبر إجراء انتخابات نيابية مبكرة وفق قانون انتخاب جديد يعتمد النسبية ولبنان دائرة انتخابية واحدة. وفي المقابل تُجري السلطة تعديلاً وزارياً لتلافي الوقوع في فراغ حكومي يودي بالبلاد الى فوضى لا تُحمد عقباها.