من البنود المُقْنِعة، مثلاً، استرداد الأموال المنهوبة. فلو جرى الإعلان مثلاً عن تحديد موعد لجلسة عامة لمجلس النواب، يوم أمس الثلثاء، يقرّ فيها قانون استعادة الأموال المنهوبة، ويجري، في الموازاة، تشكيل هيئة نزيهة، قضائية- رقابية- أمنية عليا، تتولّى التنفيذ، وتعقد جلساتها فوراً وتمتلك صلاحيات واسعة، لكان الناس قد بدأوا يصدّقون ربما أنّ شيئاً ما يتغيَّر… ومثل هذا بنود أخرى.
المال المنهوب في لبنان يقدِّره الخبراء بـ75 مليار دولار على الأقل. والبعض يذهب إلى تقديره بأضعاف ذلك. ويكفي أن تسترجع مالية الدولة 50% من الحدّ الأدنى المقدَّر، وتتوقف التجاوزات لتنحسر الأزمة تماماً. فمقدار 35 ملياراً أو 40 ملياراً، أو حتى 20 ملياراً، سيكون كافياً للبنان، وسيغنيه عن ديون «سيدر» وكل عمليات «الشحادة» المشروطة التي نلهث وراءها عبثاً من المحيط الهادئ إلى الخليج الهادر. ولكن، هل يعمد هذا الطاقم إلى معاقبة نفسه بنفسه ويقطع برزقه؟ وماذا عن الأموال التي سُرِقت منذ عشرٍ أو عشرين أو ثلاثين سنة؟
عندما صدر قانون «من أين لك هذا؟»، تفاءل اللبنانيون بأنّه سيكون خاتمة أحزانِ الدولة المنهوبة. لكن شيئاً لم يتغيَّر، وأصبح القانون أكبر «مسخرة» في تاريخ الجمهورية. واليوم، يراهنون على إقرار قانونٍ لاسترداد الأموال المنهوبة. ولكنهم، لم يحصدوا حتى اليوم سوى الأوهام.
في أدراج مجلس النواب اقتراحان لقانون يتعلق باسترداد الأموال المنهوبة. والحكومة التي سارعت تحت ضغط الشارع إلى إطلاق وعد بإقرار أحدهما أو باعتماد قانون مستوحى من الاقتراحين، إنما تحاول تنفيس النقمة فقط. ولن يصدِّق أحد أنّ أركان الأموال المنهوبة ستدفعهم ضمائرهم إلى تلاوة فعل الندامة...
في دُرج المجلس النيابي اقتراحان حول الأموال المنهوبة: في أيلول الفائت، تقدَّم الوزير جبران باسيل باقتراح قانون، جرى وضعه فوق اقتراح للنائب سامي الجميل نائم منذ العام الفائت. ولو كان طاقم السلطة يريد استرداد الأموال المنهوبة لكان تلقّف أحدهما وأقرّه. علماً أنّ الأول متماسك قانونياً لجهة تحديد المصطلحات والحالات والهيئة الخاصة بالتنفيذ، ويطابق الاتفاقية الدولية لاسترجاع الأموال المنهوبة. وقبل أيام، طرح وزير الاقتصاد منصور بطيش أفكاراً لاستعادة المال العام.
وعلى رغم حجم الانتفاضة الشعبية، فإنّ هذا الطاقم يتهرّب من أي إصلاح ويحاول التواطؤ لاستمرار منطق الصفقات، متمتعاً بامتيازات التسوية المعقودة في العام 2016، والقائمة على مبدأ التقاسم في كل شيء.
فمشكلة الإصلاح لا تكمن في الاقتراحات والأفكار، بل في الإصرار على الفساد. ولو وُجدت الرغبة في الإصلاح والمحاسبة والشفافية، لكان كافياً قانون «الإثراء غير المشروع» أو قانون «مِن أين لك هذا»؟ أو رفع السرية المصرفية والحصانة عن العاملين في القطاع العام لتحقيق الهدف.
ورفع السرّية المصرفية عن الأموال داخل القطاع المصرفي اللبناني يمكن أن يتحقّق، وفقاً للقوانين السارية المفعول، بواسطة هيئة التحقيق الخاصة في مصرف لبنان، وبناءً على إشارة من النيابة العامة التمييزية. وكذلك، يمكن بذل جهود استثنائية لملاحقة الأموال المهرَّبة إلى الخارج. والتجارب في دول أخرى من العالم أظهرت إمكان التوصل إلى نتائج مفيدة.
وإجمالاً، يكفي أن يتحرّك القضاء ضمن مهماته الطبيعية وأن يُسمح لهيئات الرقابة والتفتيش والمحاسبة بأن تمارس أدوارها في الدولة لتتوقف عمليات اغتصاب الدولة وأموالها والناس وحقوقهم. هذا ما يحصل اليوم في إسرائيل، حيث يتابع القضاء ملف الفساد المتهم به رئيس الوزراء إيهود أولمرت.
لكن المهم في لبنان، هو تحرير القضاء ومؤسسات الرقابة من الضغوط السياسية. وفي اعتقاد البعض أنّ هناك «توازن رعب» يطمئن الفاسدين إلى أنّ أي قانون للمحاسبة أو استرداد الأموال المنهوبة لن يرى النور.
ويتبادل السياسيون الاتهامات بسرقة عشرات أو مئات الملايين أو المليارات. ولكن، بدا مثيراً أنّ تبادل الاتهامات توقف عندما بدأت الانتفاضة الشعبية. فلا أحد يحقق مع أحد ولا تُرفَع قضية لملاحقة أحد. وفيما يضجّ البلد بمئات حالات الفساد وسرقة المال العام، لا يمكن العثور على فاسد أو سارقٍ واحد!
ويقتضي إقرار قانونٍ دقيقٍ وواضح وعملاني لاسترداد الأموال المنهوبة، يمكن أن تواكبه لجنة عليا تضمّ هيئات الرقابة والمحاسبة والقضاء والأمن، وتستعين بمن تراه مناسباً.
هل «شبع» الناهبون أم لا؟ وهل هم مستعدون لتلاوة فعل الندامة فعلاً والسير بالإصلاح أم إنّ هاجسهم هو التفتيش عن سبيل لترهيب الناس وترغيبهم وإتعابهم؟ فلا مجال لاسترداد «الأموال المنهوبة» قبل استرداد «السلطة المنهوبة».
لقد اعترف الرئيس سعد الحريري بأنّ ورقة «الإصلاحات» المزعومة التي أقرّتها الحكومة في 3 أيام لم تكن لتتحقق لو لم ينتفض الناس. وبناء على هذا الإعتراف، يمكن الاستنتاج أنّ الطاقم السياسي كان يكذب على الناس طوال عشرات السنين ويخدعهم بالوعود لأنّهم كانوا نائمين ومستتبعين لزعمائهم.
وبناءً على اعتراف الحريري أيضاً، يصبح لزاماً على الناس أن يتشبثوا بحقوقهم، وألاّ يقعوا في فخّ تصديق هذا الطاقم مرة أخرى، وأن يبادروا إلى القول والعمل سريعاً.
فالرهان الوحيد هو صلابة الانتفاضة ونظافتها وتَجرُّدها وجرأتها وما يمكن أن تُحَقّقه حناجر الشباب الصادحة في الساحات، وقبضاتهم الناصعة المرفوعة. والمسؤولية تقتضي أن يبادروا إلى خطوة جديدة وضربِ الحديد وهو حامٍ.