ارتبط لبنان طويلاً وكثيراً بطائر الفينيق، وسميت حضارته بالفينيقية في استعارة لا تخطئها العين للطائر الأسطوري الذي يقوم من رماده مرة جديدة، وذلك بعد أن يخيل للناظر أنه قد ذهب وراء الآفاق ولا رجعة له وتقطعت صلاته بالحياة.
على أنه دائماً وأبداً كان لبنان بتكوينه الحضاري والثقافي، وبنسيجه الاجتماعي يصحو مدهشاً من حوله، وليؤكد كل يوم أنه رسالة بأكثر منه دولة.
ما هذا الذي نراه على ردوب لبنان الأرز العتيق صاحب المجد الأدبي والإنساني، الذي يتجاوز رقعته الجغرافية أو حضوره الديموغرافي؟
باختصار غير مخل يمكن القطع بأننا أمام «فعل إيمان ورجاء» بلبنان، وبلبنان وحده المنزه عن المحاصصات الطائفية، والتبعيات الآيديولوجية، أو المساقات الدوغمائية التي أغرقت اللبنانيين في لجج من الصراعات ما كان لبلد «العيد» أن ينحدر إليها.
مشهد الشوارع اللبنانية يحتاج إلى علماء اجتماع بأكثر من كُتاب ومحللين سياسيين، إذ إنها المرة الأولى بعد انتفاضة العام 2005 التي أخرجت القوات السورية من بلد الأرز العالي السامق في أعلى عليين، التي تخرج فيها عشرات الآلاف من الجماهير اللبنانية واللبنانية فقط، من دون تمايز طبقي أو عرقي أو طائفي أو مذهبي، وهم لبنانيون ينشدون الخلاص من ثلاثة عقود من الاهتراء السياسي، والفساد الحزبي، وحكومات التشارع والتنازع، وبدع سياسية لم يسمع العالم بها من قبلُ كالثلث المعطل وما لف لفه.
بات اللبنانيون على بكرة أبيهم «نخبة مستنيرة»، نخبة نهضوية، وليست نخبة نهبوية، ومن هنا يتبين أن المفصل الذي تواجهه القيادات السياسية في لبنان هو تاريخي وخطير، ومن دون حكمة وحنكة عاليتين لن يمكن الخروج من المأزق الآني.
إيمان اللبنانيين في واقع الحال يتجاوز الوعد برفع ضريبة من هنا، أو تقديم خدمة بعينها هناك، إنه إيمان جديد بلبنان الكرامة والشعب العنيد، كما صدحت جارة القمر ورمز لبنان السيدة فيروز.
ما يسعى إليه الشعب اللبناني في هذه الآونة هو استعادة لبنان من أنياب الفساد الذي استشرى، ليجعل من اللبنانيين طبقتين لا غير، مليارديرات بالأعلى، لا علاقة لهم بالمعذبين والمجروحين في كرامتهم في قاع البلد.
غاب عن السياسات اللبنانية وجل السياسيين طوال العقود الثلاثة الفائتة ما أشار إليه حكيم الصين الأشهر كونفوشيوس، الذي حذر ليس من الفقر أن يسود مجتمعاً بعينه، بل من التفاوت الطبقي القاتل، ذاك الذي يملأ القلوب بالضغائن، ويزخم في العقل والمخيلة صور الانتقام، ويهيج الثارات ويجعلها الطريق المؤدية إلى الانحدار.
المتابعون للشاشات طوال الساعات الأخيرة يدركون أننا أمام شعب متحضر برجاله ونسائه، بشبابه وشيبه، شعب حقيق به أن يسعى في طريق الأمل للإصلاح الجذري، ذاك الذي يتجاوز بعض الإجراءات البيروقراطية، ويهدف إلى العودة إلى مربع الاستقلال اللبناني الحقيقي، لبنان القابض على كرامته بأسنانه، وليس لبنان الدائر في أطر وفلك القوى المخربة الخارجية، لبنان صاحب الزعامات اللبنانية التاريخية، تلك التي يسترجع اللبنانيون مجدها أمام أعينهم، وتعلو الألسنة باللغو اللبناني «هيك بيكون الزعماء».
أفرزت المظاهرات الأخيرة حقائق مؤكدة وفي مقدمها أنه حان الوقت ليضحى لبنان دولة واحدة، وجيشاً واحداً وشعباً واحداً، إذ لا يستقيم بالمرة أن تكون دولة ذات رأسين، حكومة وجيش وطني، وميليشيات تأتمر بأوامر الملالي، ولعل خروج متظاهرين لبنانيين في الضاحية الجنوبية من جهة، وفي المناطق الواقعة تحت تأثير وولاء حركة أمل من جهة ثانية، لهو رسالة بأن أزمنة الاحتماء بسلاح الميليشيات قد فات أوانها، وأنه وقت لبنان الموحد.
لن يخاف اللبنانيون من تصريحات نصر الله الذي يتوعد من يستقيل من الحكومة بالمحاكمة وكأنه هو الدولة، ولعل الساعة هي ساعة الوعي والرجوع عن طروحات وشروحات «التهور الاستراتيجي»، الذي يمكن أن يقود لبنان إلى المزيد من الاحتراب الأهلي والطائفي من جديد، وإن كان المرء يثق أن وعي اللبنانيين هذه المرة، وبعد سنوات الخبرة والألم التي عاشوها، سوف يقفز ويتجاوز هذا الفخ المراد للبنان.
أثبتت المظاهرات الأخيرة ضمن معطيات كثيرة أن كافة معطيات ومحاولات الإسلام السياسي قد باءت بالفشل، وأن تسخير الدين ولي عنق النصوص لا يفيد، فالشعوب كما الجيوش تمشي على بطونها، وتتطلع إلى الصادقين الأمناء في وعودهم، وقراراتهم، لا في تنظيرهم وخطبهم الرنانة والطنانة والتي لا تسمن ولا تغني من جوع.
ستكون الطريق طويلة حتى يستعيد اللبنانيون حقوقهم، غير أن ما جرى أثبت أنهم قادرون على الأمل ومتعلقون بهدبه، لا يلوون عليه شيئاً، وهذا هو الدرب للتصحيح الجذري العميق.
جميل إلى حد الروعة مشهد السلوك الآدمي والإنساني لقوات الجيش اللبناني تجاه المتظاهرين، وكذا موقفه من المظاهرات ما يعني أن وحدة الصف اللبناني قائمة وقادمة.
لبنان أراد الحياة... وقدره الساعة في أيدي اللبنانيين.