ليست الغابات وحدها التي كانت تحترق في لبنان بداية هذا الأسبوع، في كارثة بيئية كبيرة ومخيفة وغير مسبوقة، فالمسؤولية السياسية أو ما تبقى منها، هي أيضاً التي كانت تشتعل وتتفحم، ولم تكن جريمة النيران التي اندلعت في 138 نقطة من رئة هذا البلد الميتّم والمتهالك، أقلّ من جرائم عدد كبير من المسؤولين السياسيين، الذين تبيّن مرة جديدة أنهم أسوأ من الحرائق، لأن النار تجد في النهاية الإطفائيات التي تكافحها وتنهيها، ولو كانت ستأتي كالعادة تسولاً من قبرص واليونان، وحتى من الأردن وأوروبا لو دعت الحاجة.
ولكن كيف يمكن مكافحة هذا الحريق السياسي المتأجج منذ أعوام، الذي لم يترك لبنان بلا وقاية من الكوارث والحرائق فحسب، بل أشعل نيران الحروب وأجج الصراعات التي لا تنتهي، وسبق له أن دمر البلاد كما يدمّر الاقتصاد الآن؟
يوم الأربعاء الماضي، تحولت الغابات مساحات متفحمة، ملايين الأمتار من الغابات والبساتين المثمرة وحتى بعض البيوت القريبة تئن متفحمة سوداء، لكن النقاشات والمقارعات بين النواب والوزراء، لا ولن تقل سواداً وسط محاولات لتقاذف المسؤولية عما حصل، والذي حصل إنما جاء في سياق تراكمي من الإهمال والفساد وعدم احترام للمسؤولية.
كان الأمر محزناً تماماً؛ فنانون من العالم العربي يعرضون تقديم حفلات، يعود ريعها إلى مساعدة المتضررين من الحرائق، وبدر ناصر الخرافي يتبرّع بمبلغ مائة ألف دولار لدعم عمليات إعادة التشجير، وبعض الهيئات المدنية تنصرف إلى تأمين حاجات الذين احترقت بيوتهم، بينما كان النواب في البرلمان منهمكين في خلافاتهم وفي تقاذف التهم، إضافة طبعاً إلى الخلاف حول موازنة السنة المقبلة.
الآن يتبارون في الدعوة إلى تحقيق حول طائرات السيكورسكي المخصصة لمكافحة الحرائق والمعطّلة في المطار، ولكأن القصة تقتصر في فصولها الفضائحية وفسادها العميق عند هذا الأمر وحده، والمضحك المبكي أنهم يتحدثون مرة جديدة عن «لجنة تحقيق برلمانية»، وبالتالي من يحقق مع من، في بلد لا حدود بين سلطتيه التنفيذية والتشريعية، وفي زمن صارت فيه الدولة تقوم علناً على مبدأ المحاصصات، ودائماً من منطلق طائفي ومذهبي بما يكفل دوام الانقسام، واستحالة محاسبة الفاسدين الذين لم يقوموا بما عليهم من المسؤولية!
ليست المرة الأولى التي تندلع فيها الحرائق بلبنان، فقد سبق قبل أعوام بعد عدد من الحرائق، أن جاءت شركة «كاندير» المتخصصة في صنع طائرات مكافحة الحرائق وقدمت عرضاً ممتازاً أمام المسؤولين السياسيين والعسكريين، كونها تستطيع حمل عشرين طناً من المياه دفعة واحدة لتلقيها على النيران، لكن لبنان لم يشترِ هذه الطائرة، رغم أن إهدار المال العام والفساد المتوحش سيضعان البلد بعد أعوام تحت عجز يناهز المائة مليار دولار!
هذه واحدة... أما الثانية التي لا تصدق فكانت عندما قدمت فرنسا للبنان قبل أعوام، ستين عربة إطفاء مخصصة للتوغل في الغابات والطرقات الصعبة، لكن هذه السيارات بقيت في المطار زمناً طويلاً، ولم تسمح السلطات المعنية بدخولها بحجة أن محركاتها تعمل على المازوت، وأن لبنان يمنع محركات المازوت، لكن البلد كله تقريباً كان ولا يزال يسير على المازوت، المازوت في محركات السيارات والمازوت في السياسات والمسؤوليات، التي أوصلت لبنان إلى ما هو فيه اليوم!
بالعودة إلى قصة طائرات السيكورسكي، كانت جمعية اسمها «أخضر دائم» قد تبرعت عام 2009 بشراء ثلاث طائرات من هذا الطراز المخصص لمكافحة الحرائق بمبلغ 13 مليون دولار مع صيانة مجانية لمدة ثلاثة أعوام، وكانت المفاجأة أنه عندما اشتعل لبنان بداية الأسبوع، تبيّن أن هذه الطائرات باتت مجرد خردة صدئة ومهملة متروكة في المطار، مع أن التكلفة السنوية لصيانتها تبلغ 450 ألف دولار فقط!
وعندما طلب إجراء تحقيق حول المسؤولية في هذا، قرأ اللبنانيون روايات متناقضة حول هذه الطائرات، منها ما قال إن أحد الوزراء الميامين كان قد حول المبلغ المرصود لصيانتها إلى مكان آخر، ومنها ما يقول إن الوزير الذي خلفه رأى أن لا حاجة للبنان بها، وبالصرف على صيانتها، لأن قبرص قريبة ويمكن الاعتماد على النجدة منها، وهي بالمناسبة التي سارعت إلى العمل لإطفاء الحرائق بداية الأسبوع، ومنها ما يقول إن الطائرة المذكورة غير صالحة للمناورة في الأماكن الجبلية الضيقة، رغم أنه سبق لها أن كافحت 13 حريقاً في الماضي، ومنها أيضاً وأيضاً ما يقول إن هذه الطائرة تحمل مياه البحر المالحة وهي غير ملائمة، ولكأن النار لا تنطفئ إلا بالمياه العذبة!
لكن المعروف أن طائرات السيكورسكي ذات كفاءة عالية، وهي من أنجح الطائرات وأهمها، ومنها نوع يستعمل لنقل الرئيس الأميركي في البيت الأبيض، وأن أسراباً منها أسهمت بقوة في مكافحة الحرائق الكبيرة التي اشتعلت قبل أشهر في ولاية كاليفورنيا، ولست أدري الآن ماذا سيقول التحقيق اللبناني في هذا الموضوع، إنْ لجهة الإهمال وعدم صيانة الطائرات، وإن لجهة صلاحيتها وقدرتها، لكن الخشية من أن ينتهي التحقيق كما انتهت الحرائق مجرد رماد ودخان يتبخّر!
كان يمكن القول «اضحك أنت في لبنان»، ولكنها كارثة بيئية ومأساة وطنية تدعو إلى الأسى والبكاء، خصوصاً أمام تلك الصور المروعة التي شاهدها العالم، ففي مواجهة الحرائق الضخمة المندفعة في اتجاه المنازل والساحات، كان هناك رجال يكافحون بأنابيب المطاط ترش الماء وأطفال يحملون الماء في الأواني المنزلية لإلقائها على النار ونساء يفرغن زجاجات الماء على الوحش الزاحف.
لا يا سيدي؛ ثمة ما يدعو إلى البكاء في بلد متعوس إلى هذا الحد، خصوصاً عندما تقرأ على مواقع التواصل الاجتماعي مثلاً، وبموازاة أخبار الحرائق، القصة التي تقول إن الدولة اللبنانية تدفع على مبنى الجامعة اللبنانية المهجور منذ عام 1987 مبلغ 300 مليون ليرة في السنة بدل إيجار، أي ما يساوي مبلغ أربعة ملايين وأربعمائة ألف دولار كان يمكن أن يصون الطائرات الثلاث ويشتري واحدة أخرى!
ليس السؤال بعد كل هذا ماذا ستكشف التحقيقات، إن كانت الحرائق طبيعية أو مفتعلة كما قالت بعض الروايات، أو من المسؤول عن إهمال الطائرات لتصبح كومة من الخردة الصدئة في المطار، المهم أكثر من كل هذا؛ احتراق ما تبقى من صدقية لبنان أمام الدول المانحة، التي قررت مساعدته في مؤتمر سيدر، لتكتشف الآن ليس أنه غارق في الحرائق فحسب ويتسول المياه من قبرص وهو بلد الينابيع، بل أيضاً أنه غارق في حرائق الخلافات السياسية سواء على الموازنة ومحاربة الفساد ووقف الإهدار، وسواء على موقعه من الصراع الإقليمي، فهو يتحدث بلسان حكومي عن وجهه العربي وسياسة النأي بالنفس، لكنه يصدم أشقاءه العرب تكراراً بتصريحات ومواقف وزارية لا تناقض الإجماع العربي من النظام السوري فحسب، بل تنحاز إلى إيران ضد أشقائه الخليجيين، الذين يُراد منهم أن يساعدوه من جديد، وبعض الألسنة فيه لا تتوقف عن تهديدهم والشتيمة… غريب!