ما زالت الدوائر السياسية والديبلوماسية تبحث في الأسباب التي دفعت وزير الخارجية رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل الى اتخاذ ما أطلقه من مواقف في اجتماع وزراء الخارجية العرب الاستثنائي في القاهرة يوم السبت الماضي، والتي استكملها في احتفال الحدت في الذكرى الثلاثين لـ 13 تشرين، من دون التوصّل الى تحديد ما أراده في رسائله، سواء بالنسبة الى الخارج او الداخل، وسط خلاف كبير في قراءة خلفيّاتها ومَراميها.
قبل الدخول في الكثير من التفاصيل، تجدر الإشارة الى أنّ اختيار باسيل إطلاق هذه المواقف على حِدّتها من منبرين: واحد إقليمي وآخر داخلي، بفارِق ساعات قليلة، لم يكن مُصادفة، بل أراد إطلاق مسار سياسي جديد وغير تقليدي في الداخل والخارج معاً. فاختياره للداخل مناسبتين قريبتين في تاريخيهما: الأولى بحجم «واقعة 13 تشرين» قبل ثلاثين عاماً، والثانية غير بعيدة هي انتخاب العماد عون رئيساً للجمهورية في 31 من تشرين قبل ثلاث سنوات، يَشي بالكثير الذي يحتمل التأويل.
على وَقع ردود الفعل المتنامية على هامش كلمة لبنان التي أطلقها باسيل من القاهرة، وما شَكّلته من مفاجأة لدى كثيرين على الساحة اللبنانية، باعتبار أنّ ما أشار إليه في شأن الدعوة الى استعادة سوريا عضويتها في الجامعة العربية ما زال عنواناً لبنانياً خلافيّاً كبيراً يفرز اللبنانيين. وجاء خطاب الحدت ليُلقي الضوء أكثر فأكثر على حجم الخلاف في ما بينهم، وهو ما أطلق حملات متبادلة ليس من السهل احتواؤها في الساعات والأيام المقبلة.
وباعتقاد كثر ممّن يدافعون عن موقف باسيل في توقيته وشكله ومضمونه، انه من الضروري ان يكون لبنان حاضراً في قلب المعادلات الجديدة الجاري بناؤها بين العرب والنظام السوري. ففي توقيت خطاب باسيل مُحاكاة لواقع يجري طَبخه في الكواليس بين العواصم الخليجية وطهران، وما بينها ودمشق.
وفي اعتقادهم انّ التطبيع العربي والخليجي، تحديداً مع النظام السوري، جارٍ على قدم وساق في الكواليس السياسية والديبلوماسية، ولا بد من ان يكون لبنان من أصحاب المبادرة قبل غيره ممّن يقومون بهذه الإتصالات. فالساحة السورية باعتقادهم مُكمّلة للساحة اللبنانية، وانّ بعضاً من الفرج الإقتصادي والمالي والإجتماعي والتجاري، الذي يسعى اليه الفريق المؤيّد، يكمن في إحياء الإتصالات بين بيروت ودمشق.
وعليه، لا يميّز أصحاب هذه النظرية، الذين يراهنون على مواقف باسيل لقيادة مرحلة جديدة في العلاقات بين لبنان وسوريا، بين مواقفه ومضمون لقائه المطوّل قبل أيام مع الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله وتَتمّة للمواقف التي أطلقها الحزب وتبنّاها رئيس مجلس النواب نبيه بري في الأيام الماضية، وما شَهدته آخر جلسة لمجلس الوزراء. فقد جاءت مداخلة الوزير محمد فنيش أثناء النقاش حول فتح معبر البوكمال بين سوريا والعراق، في آخر جلسة للحكومة، لِتُحيي الدعوات القديمة لإحياء الاتصالات مع دمشق لمواجهة مظاهر الأزمة الاقتصادية، ولاسيما الزراعية منها وإعادة حركة الترانزيت الى الخليج عبر معبر نصيب مع الأردن، والى العراق عبر معبر البوكمال واستعادة سوريا نازحيها من لبنان.
وفي مواجهة هذه النظرة، هناك من يعتقد صادقاً أنّ أصحابها يستعجلون المراحل في إحياء العلاقات مع دمشق، فكانت المواقف التي واجهَت طرح فنيش من قبل وزراء «المستقبل» و«التقدمي» و»القوات اللبنانية» في الجلسة نموذجاً لشكل الخلاف وآفاقه. فأصحاب هذه المواقف يعتقدون انّ الحديث عن إحياء العلاقات العربية مع دمشق ما زال أوانه بعيداً، لأنّ الخطوات الديبلوماسية التي افتتحتها الإمارات العربية المتحدة بإعادة فتح سفارتها في دمشق جمّدت ولم تعيّن سفيراً لها فيها، وانّ الرياض وغيرها من الدول العربية ما زالت بعيدة كل البعد عن توقعات أصدقاء النظام في سوريا.
ويضيفون أنّ السيناريوات التي ينسجها أصدقاء النظام ما زالت مجرد رغبات. فإشارة الأمين العام للجامعة العربية، تعقيباً على موقف لبنان يوم السبت الماضي الى انّ ما هو مطلوب من دمشق ما زال كثيراً وبعيد المنال، وهو ما وضعَ لبنان في محور لم تتقدم إليه سوى الصومال والجزائر والعراق وهو ما لا يؤدي الى أيّ تقدّم مُحتمل، لا على مستوى استعادة النازحين السوريين ولا على مستوى تحسين العلاقات الإقتصادية من البوابة السورية.
هذا على المستوى العربي والإقليمي، امّا على المستوى الدولي فهناك الكثير ممّا يدفع مُعارِضي اقتراحات باسيل الى المضيّ في رفضها. فالعملية التركية في شمال العراق التي يستخدمها البعض منصّة او مناسبة لاستعادة موقع سوريا في الجامعة العربية لا تكفي. وانّ النزاع المُستحدث بين بعض الأنظمة العربية وتركيا، على خلفية اتهامها بقيادة حركة الإخوان المسلمين في المنطقة ولم تضع سوى قطر في الجانب التركي وأبقت العالم العربي في موقع آخر، لا يؤدي الى استعادة العلاقات مع دمشق.
عند هذه السيناريوات يتمحور الجدل حول مواقف باسيل وما حَوَته، وإن أراد البعض أن يضعها في إطار اللعبة الداخلية منها، سواء على مستوى التيار وما فيه من خيارات أخرى بدأت تطلّ بقرنها من خلال ذكرى 13 تشرين، فهو تَسخيف لحَجم ردود الفعل التي تركتها هذه المواقف. وإنّ قراءتها من قبل البعض، في مواجهة اطراف أخرى في الحكم والحكومة، تطرح السؤال الكبير: هل ساءت العلاقات بين رئيس الجمهورية وباسيل ورئيس الحكومة الى هذا الحد؟
وهل تضاربت المواقف من استحقاقات الموازنة والإصلاحات المنتظرة؟ وإن كان ذلك قائماً فما هي هذه الصورة القاتمة التي نقدمها الى المجتمع الدولي والخليجي على بوّابة الحوار المُنتظر معهم؟ وإن صَحّت هذه الأسئلة فهل تمر مواقف باسيل على البارد، أم أنه سيكون للبحث صِلة؟