تأتي زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى المملكة العربية السعودية في توقيت استراتيجي، مهم وحساس؛ بل فارق وحيوي في تاريخ العلاقات السعودية الروسية التي تنمو وتتصاعد يوماً تلو الآخر.
في اللقاء بين خادم الحرمين الملك سلمان بن عبد العزيز والقيصر فلاديمير بوتين، يمكن للمرء أن يلاحظ تطوراً نوعياً وكمياً في شكل ومضمون الوصل والتواصل ما بين الرياض وموسكو، والذي يكتسي من خلال هذه الزيارة قوة ومتانة، وإدراكاً خلاقاً للمتغيرات الجيوسياسية والجيواستراتيجية، سواء كان ذلك فيما يتعلق بالمنطقة الخليجية والشرق الأوسط وما يعتريهما من أزمات وإشكاليات، أو بالنسبة للعالم برمته.
غني عن القول، أن علاقة الرياض بموسكو تسبق دبلوماسياً علاقة كثير من عواصم العالم مع الدولة السعودية في أوائل القرن العشرين، فقد بادر الاتحاد السوفياتي بالاعتراف بالفعل بالعاهل السعودي المؤسس الملك عبد العزيز بن سعود، ومنذ ذلك الوقت جرت في نهر العلاقات الثنائية مياه كثيرة.
أضحت موسكو في زمن القيصر رقماً صعباً في المعادلة الدولية، وباتت من جديد طرفاً فاعلاً ومؤثراً، لا في مجريات الأمور وتطورات الأحداث؛ بل في رسم الخيوط وتخليق الخطوط للسياسات الدولية، وقد قاد بوتين نهضة الفينيق الروسي من جديد منذ عام 2000، وها هو يطل على روسيا مغايرة، تعرف كيف تملأ كثيراً جداً من مربعات القوة والنفوذ، لا سيما تلك التي خلفتها واشنطن من ورائها، بسبب سياسات القيادة من وراء الكواليس.
ينظر بوتين إلى المملكة العربية السعودية كدولة صديقة، ويؤكد أنه قد نشأت بينه وبين الملك علاقة طيبة، وكذلك الأمر مع ولي العهد، ويجزم أيضاً بأنها علاقة تتطور عملياً في كافة الاتجاهات.
أكثر من ذلك، يضعنا يوري أوشاكوف، مساعد الرئيس الروسي، أمام حقيقة أن القيصر يتواصل مع الملك عبر الهاتف بشكل دوري، كما أن بوتين يجتمع بانتظام مع ولي العهد السعودي، ما يعني أننا أمام علاقة فوق أو ما بعد استراتيجية.
تكتسي زيارة الرئيس بوتين أهمية خاصة في هذا التوقيت؛ حيث كثير من ألسنة اللهب مشتعلة، وما من أحد يسعى في طريق الحرائق؛ بل الجميع يسارع إلى إطفاء ألسنة اللهب، فمن سوريا؛ حيث الجرح النازف الكبير، وصولاً إلى تطورات المشهد التركي وما يقوم به من غزو واضح هناك، مروراً بالأزمة اليمنية المركبة والمعقدة، والتهديدات الإيرانية، وصولاً إلى ما يجري على الأراضي الليبية، يجد المرء أن روسيا حاضرة ومؤثرة، وأن دورها اليوم أصبح يتساوق مع بقية الأدوار الدولية التقليدية، ولا نغالي إن قلنا إنه يسبقها في بعض المرات.
على الجانب السعودي، يعتبر تعميق العلاقات مع موسكو نوعاً من الذكاء الدبلوماسي، وإنجازاً يحسب للقيادة السياسية بقيادة خادم الحرمين، لا سيما وأنها تواجه تحديات جسيمة، ومخاطر كثيرة محدقة بأمنها وسلامتها، وبخاصة في ظل تهديدات كانت واضحة ومرفوضة من الضيف الروسي، كما الحال مع الاعتداء على منشآت «أرامكو» النفطية، الأمر الذي أدانه بوتين صراحة ومن غير مواراة أو مداراة.
والشاهد أنه حين تقوم الرياض بضبط المسافات والعلاقات مع بقية مراكز صناعة القرار الدولي حول العالم، فإن ذلك يعني عدم ارتهان قرارها المستقل وسيادتها المطلقة في أي لحظة من اللحظات لقوة بعينها أو دولة بذاتها؛ بل تظل هي دائماً وأبداً صاحبة اليد العليا والكلمة الحرة المسموعة، وحتى لا يمكن أن تشرق لحظة ذات نهار، وهناك من يحاول تعطيل صالح ومصالح المملكة وشعبها، وهذا توجه أصيل ضمن «رؤية 2030» التي يقودها الأمير محمد بن سلمان، ويسعى من خلالها إلى تعظيم منافع المملكة في علاقاتها مع أمم المسكونة، وضمن إطار من الانفتاح الإنسانوي الخلاق؛ لا البراغماتية الضيقة، ومن خلال الانفتاح المعرفي على الجميع شرقاً وغرباً، وبعيداً كل البعد عن ضيق الآيديولوجيات أو العصبيات.
اللقاء ينتظر أن يكون برداً وسلاماً على الرياض وموسكو، من خلال تفعيل والتوقيع على نحو ثلاثين وثيقة، تمثل آفاقاً رحبة للتعاون الخلاق التجاري والصناعي، التقني والعسكري والثقافي، وغني عن القول أن مجال الطاقة يعد أحد أهم مجالات التعاون بين دولتين تتسنمان قمة الدول المنتجة للنفط، ويحتاج الأمر إلى تنسيق متواصل بينهما، حفاظاً على مصالحهما، ولصالح استقرار أسواق المواد البترولية في الأسواق الدولية.
ينتظر العلاقات الروسية السعودية مستقبل واعد؛ لا سيما بعد بشائر التعاون الخلاق بين صندوق الاستثمارات المباشرة الروسي والمملكة، ما يفتح الدروب أمام تعاون اقتصادي بناء، وفي وقت يتخوف فيه العالم من أزمة اقتصادية طاحنة في 2020، لا يمكن القفز عليها إلا من خلال شراكات بين كبريات الأمم والشعوب.
الزيارة فرصة جيدة لوضع الصديق الروسي أمام حقيقة التهديدات الإيرانية الآنية. وقد صرح بوتين بأن الحوار هو الحل، وهو صاحب يد عليا في العلاقة مع إيران، ويمكنه أن يكون حكماً عادلاً أو وسيطاً نزيهاً عند لحظة بعينها.
الملك والقيصر... لقاء على درب الأصدقاء الكبار.