الجهات التي أطلقت النار على الشباب العراقيين المنتفضين وأردت أكثر من 106 شهداء وأكثر من 6 آلاف جريح تشعر أنها انتصرت في إخماد الانتفاضة الشبابية. فقد استطاعت انتفاضة الشباب أن تحاصر جميع صنوف الطبقة السياسية لدرجة أنهم جميعاً صمتوا في اللحظات الأولى وتركوا لرصاص القناصة والمدسوسين داخل الأجهزة الأمنية أن يأخذ دورهم الدموي في الكراهية والحقد على شعب العراق، ثم بدأت مرحلة الإفصاح عن الوجه السياسي الموجه لهذه الانتفاضة، وهو في الحقيقة وجهان. الأول تطميني يحاول تخفيف الأزمة وتقديم بعض الحلول العاجلة، والثاني تحريضي أعطى الوجه الأكثر خطورة على أمن الشعب رغم أن رواده يدّعون حماية أمنه.
الرئاسات الثلاث تحدثت بلغة متباينة لكنها انطلقت من مضمون واحد في التهدئة غرضها الرئيسي الدفاع عن العملية السياسية في مرحلتها التنفيذية الحالية ومحاولة حمايتها وحماية زعمائها من مخاطر الإزاحة والتغيير على يد الشعب. عبرت عن ذلك بلغة الاستمالة العاطفية وتبرير ما حصل من وجهة نظر السلطة، وتفاوتت لهجة الخطاب تبعاً لاستحقاقات المواقع الوظيفية والإمكانيات الشخصية في توصيل الخطاب. وتقدم رئيس البرلمان محمد الحلبوسي على كل من رئيسي الجمهورية والوزراء شكلياً في تلقائية الحوار التلفزيوني غير المكتوب رغم أن الثلاثة كانوا متفقين على مضمون واحد في طلب الإجراءات، أو في الوعد بتنفيذها لاستيعاب الصدمة الشعبية وعبور اللحظة الحرجة.
لكنها كانت أشبه بمرافعة بين الشعب والسلطة. تصورات الشعب كانت واضحة وفيها فقرات يومية في البطالة وفقدان السكن وغياب الضمان الاجتماعي كنتائج لحصاد مرير لستة عشر عاماً كشفته الأرقام الرسمية المحلية والعالمية: ثلاثة ملايين ونصف المليون مهجر وأربعة ملايين نازح ومليون ونصف المليون يعيشون في مخيمات وخمسة ملايين ونصف المليون يتيم ومليونا أرملة وستة ملايين أمي ونسبة البطالة 32 بالمئة و53 بالمئة تحت خط الفقر، مع تردي القطاعين الصحي والتعليمي. هذا نتاج سياسات الأحزاب الحاكمة التي نهبت مليارات العراق.
رموز الواجهة الحالية للحكم يحاولون استبعاد الأسباب، وإخفاء الصورة الكلية بتبرير يبدو منطقياً في الشكل بأن الحلقة الحاكمة الحالية لا تتحمل مسؤولية سنوات ما قبلها، مع أن أي مرافعة جدية تتطلب مواجهة مباشرة بين أقطاب الزعامات السياسية صانعة رؤساء البرلمان والجمهورية والحكومة وبين الشعب.
رئيس البرلمان بادر إلى استدعاء مجموعة من المتظاهرين في حوار نقل تلفزيونياً لكن ما تسرّب من ذلك اللقاء أفاد بأن تلك المجموعة الشبابية لم تمثل الكتلة الحقيقية للانتفاضة، وما حصل هو استكشاف خيوط واقعية من الصدمة التي سرّبت بعض زعامات الفصائل المسلحة أنها كانت على علم بتوقيتها في الأول من أكتوبر الحالي وألبستها ثوب “المؤامرة على السلطة القائمة”، وهذا ما عبر عنه رئيس الحشد الشعبي فالح الفياض يوم 7 أكتوبر في نفس يوم خطاب رئيس العراق. أما رئيس الوزراء عادل عبدالمهدي فحاول في خطابه تبرئة نفسه.
الخطاب الأكثر وضوحاً جاء من الرئيس العراقي برهم صالح الذي يبدو أنه وبتنسيق مع رئيسي الحكومة والبرلمان قد أحاط استحقاقات قيادة سلطة الحكم بقدر من الإفصاح عن أسباب الأزمة وعن حلول سياسية أكثر مما هي إجرائية يتولاها رئيس الوزراء. فقد أدان مطلقي النار على الشباب وطالب بفتح تحقيق قضائي واتخذ قرارات جادة بتشكيل لجنة حوار مع المتظاهرين من العقلاء والحكماء، متجاوزاً فكرة الحوار التي عرضها كل من رئيسي مجلس النواب والحكومة وفتح حوار سياسي شامل وبنّاء لدعم الإصلاح، وتشكيل كتلة وطنية كبيرة، ودعم إجراء الحكومة لأداء تعديل حكومي جوهري وتفعيل المحكمة المختصة في ملفات الفساد.
وكرر المطالبة بتشكيل مجلس الخدمة الاتحادي الذي كان قانونه مودعاً في مجلس النواب منذ عشر سنوات وكذلك تشريع قانون جديد للانتخابات.
قد تخفف وعود الإجراءات الآنية بعضاً من آلام جراح الشباب إذا ما تحققت فورا، خصوصاً في القبض على زعامات الفاسدين وإحالتهم إلى القضاء لكنها لن تداويها، لأن المشكلة الحقيقية هي في أزمة النظام السياسي، وهي أزمة سياسية وليست أزمة مطالب فقط، وهذا ما عبر عنه مباشرة خطاب رئيس هيئة الحشد الشعبي فالح الفياض الذي كشف عن الوجه الحقيقي للمواجهة بين المنتفضين الشباب وبين السلطة، حين هدد بالرد القاسي ضد من أسماهم بمن “أردوا بالعراق سوءا” لكنه لم يسمهم. ووضع السلطة في مواجهة الشعب وبرر ذلك بأنه وحشده “يدافعون عن دستور ودولة بنوها بالدماء والتضحيات”، وافترض وجود معركة بينهم كسلطة وبين الأعداء الذين خسروا المعركة معها في جولة التظاهرات هذه رغم أنه لم يحدد الأعداء الذين يخوضون معهم المعركة في انتفاضة أكتوبر، لكنه كشف أنهم في قيادة الحشد يعرفون من يقف خلف المظاهرات وهم جاهزون لأية مهمة تطلبها الحكومة، والمخطط الذي يقف خلف المظاهرات هو إسقاط نظام الحكم الحالي ومخططه قد فشل، ويعتقد الفياض أنه “لا مجال لأي انقلاب أو تمرد والعراق لا يحكم من قبل طائفة بعينها”.
ألغى الفياض في خطابه ما حاول الرؤساء الثلاثة إيصاله إلى المنتفضين وإلى الشعب، باعتباره أن المعركة التي عبرّت عنها انتفاضة الشباب والرد القمعي الدموي ضدها هي صدام بين السلطة وبين أعدائها. وأن هناك مؤامرة تحدث عنها غيره في الداخل وبعض مناصريهم في الخارج من الذين غيرّوا جلدهم الطائفي من المتلونين والراكضين وراء الدولار، بتأكيدهم أن هناك مؤامرة تقود إلى إسقاط النظام تموله دول الخليج، وأن هناك قيادة ومقرا سريا كان يقود التظاهرات وإعلاما خليجيا يدعمه وله علاقة حسب زعمهم الخائب بعملية أرامكو في السعودية، لكن تم إفشاله.
لكي تتأكد فعالية الإجراءات لتلبية مطالب الشباب ينبغي أن تنفذ فوراً، وأن يتم الانتقال إلى مرحلة فتح حوار من خارج السلطة، إن كان الرئيس برهم صالح جاداً بذلك وقد يشاركه رئيس البرلمان. هذا الحوار قد يتحقق عبر مؤتمر وطني عراقي يكون يضم الشباب والحراك الشعبي والمعارضين الوطنيين بعيداً عن الأحزاب الحاكمة.