تشكلت اللجنة الدستورية المفترض أنها أداة من أدوات الحلّ المُتوخى في سوريا. ضمت تلك اللجنة من ضمت من معارضة وموالاة ومجتمع مدني، لكنها استثنت المكون الكردي الذي تستهدفه الحملة العسكرية التركية الحالية. وعلى ذلك تطرح الأسئلة حول هذا التواطؤ “الكوني” للانقلاب على الإنجاز الكردي الذي تحقق من عام 2011.
اعتاد الأكراد، تاريخيا، على دفع ثمن المصالح الكبرى وتسوياتها الخبيثة. بدا ذلك منذ أن أغفل مبضع اتفاقية سايكس بيكو الاعتراف بدولة للأكراد على منوال ما أنشأته الخرائط من دول قسّمت جثة العثمانية الزائلة. دفع أكراد العراق ثمنا موجعا مقابل تسويات تمت بين بغداد وأنقرة، أو بين طهران وبغداد لاحقا. فيما أكراد سوريا، الذين أغفلت دمشق قلب العروبة النابض حقوقهم، وجدوا أنفسهم هذه الأيام من جديد، ضحايا ما تقرره الغرف المغلقة وما يقترف باسم المصالح الكبرى.
قام تحالف دولي تألّف من عشرات الدول لمحاربة تنظيم داعش في سوريا. صبّ التحالف بقيادة الولايات المتحدة نيرانا كثيفة، واستخدم تقنيات عسكرية حديثة لإضعاف تنظيم أبوبكر البغدادي. بدا أن تلك الجهود الهوليودية غير قادرة على تقويض جسم الإرهاب العملاق القادر على التأقلم مع كل الظروف، والقادر، رغم تلك الحرب الدولية ضده، أن ينال من عواصم ومدن داخل أوروبا والولايات المتحدة.
لم تكن واشنطن تريد الزجّ بجندها مجددا في أتون حروب كتلك في أفغانستان والعراق. لا تريد الإدارة للناخبين في الولايات المتحدة أن يتأثروا مباشرة وعبر عائلاتهم بالصراعات التي تخوضها واشنطن في العالم. بدا أن تلك الروح هي التي رانت العواصم الغربية برمتها، فراحت تتبارى في النزوع إلى الانكفاء والعزوف عن الانخراط المباشر في صراعات العالم. لاذت الحكومات ببرلماناتها للتنصل من أي قرار يدفع بها أخلاقيا للتدخل لوقف المحرقة السورية. هكذا فعل برلمان باريس، وهكذا فعل برلمان لندن، علما أن الحروب التي انخرطت بها تلك الدول لم تستعنْ قبل ذلك بأي برلمان.
لم تجد واشنطن لدى المعارضة السورية القماشة الاجتماعية والأيديولوجية لتشكيل تحالف ضد داعش. كانت تلك المعارضة ترفع لواء الحرب ضد النظام السوري والقضاء عليه، ولم تكن تريد الانخراط في أي تحالف مع الغرب لا يكون هدفه إزالة حكم الأسد في دمشق. لا بل إن التشكيلات السياسية للمعارضة السورية رفضت الموافقة على قرار المجتمع الدولي وضع تنظيم النصرة بقيادة أبومحمد الجولاني على قائمة الإرهاب، واعتبرته تنظيما سوريا مناهضا لنظام دمشق، يندرج داخل تلك الجبهة السورية العريضة المناهضة لهذا النظام.
كان تحالف الولايات المتحدة مع الأكراد في سوريا الحلّ الوحيد المتوفر. الأكراد يتعارضون أيديولوجيا مع الجهادية التي ترفع داعش والقاعدة لواءها، وهم في معارضتهم لنظام دمشق، السابقة على موسم الربيع العربي بسنوات، لا يريدون من الصراع في سوريا إلا حماية المكون الكردي والدفاع عن حقوقه السياسية، سواء مع هذا النظام في دمشق أو أي نظام آخر يأتي على أنقاضه، خصوصا أن ما حملته المعارضة السورية من مشاريع وبرامج وأوراق، بقي أسير الطابع العربي للدولة لا يلحظ كثيرا حقوق الأكراد في سوريا المستقبل.
تشكلت قوات سوريا الديمقراطية (قسد) من خليط كردي عربي ينزع عن الحراك هويته الكردية، ويدرج أمر الحرب ضد الإرهاب داخل مساحة أوسع من الأجندة العرقية الكردية الخالصة. صحيح أن تطعيم التشكيل العسكري الجامع، الذي تسيطر عليه “وحدات حماية الشعب” الكردية، بحضور عربي، لم يكن مقنعا بأن هذا الجيش بات عابرا للقوميات، وأن أجندته تختلف عن أجندة القيادة الكردية المركزية في جبال قنديل شمال العراق. إلا أن التحالف الدولي اكتفى بالشكل، ليستند في معركته ضد داعش على المضمون.
خاضت قسد معارك الميدان ضد تنظيم داعش بكل بسالة ومهنية. دفع هذا الجيش دماء غزيرة من أجل تطهير “إمارة الرقة” الداعشية وبقية مناطق وأنحاء شرق الفرات. كانت طائرات التحالف تدكّ حصون التنظيم الإرهابي عن بعد، بيد أن أمر القضاء عليه لم يكن ليتحقق، بما يتيح للرئيس الأميركي دونالد ترامب إعلان النصر في واشنطن، لولا الجهود العسكرية المتمرسة التي أظهرتها هذه القوات، ولولا الملاحقة الدؤوبة التي قامت بها داخل الأزقة والمخابئ والكهوف التي انتهت إليها فلول التنظيم المتقهقر.
عوّل الأكراد كثيرا على تحالفهم مع الولايات المتحدة وتحالفها الدولي، لكي يحققوا إنجازا سياسيا تاريخيا لطالما طمحوا إليه. ومع ذلك سارعوا إلى الإعلان داخل أدبياتهم ومن على منابرهم، سواء كان ذلك قناعة حقيقية أم مناورة تكتيكية، أنهم لا يصبون إلى قيام دولة مستقلة، وأن هدفهم الأقصى التمتع بحكم ذاتي يشبه تلك الإدارة الذاتية التي أقاموها في مناطقهم في السنوات الأخيرة.
عرف الأكراد أن الولايات المتحدة ربما تريد أن تستخدمهم في حرب لا تريد وحلفاؤها الانخراط بها بريا، وسوف تنقلب عليهم حال انتهائها. ومع ذلك خاضوا تلك الحرب كونها، عمليا، الخيار الوحيد للذود عن أنفسهم وعن بيوتهم ومدنهم وقراهم ضد التنظيم الذي كان يستهدفهم. رأوا كيف استهدف داعش اليزيديين في العراق وحاول استهداف الأكراد في ذلك البلد، قبل أن تردّهم قوات البيشمركة بدعم من التحالف الدولي. وخاض أكراد سوريا الحرب أيضا، لأنه في تحالفهم مع واشنطن واعترافها بقدراتهم، يدخلون نوادي الكبار الذي شرّع لهم أبواب واشنطن ولندن وباريس وبرلين.
ومع ذلك صدقت دروس التاريخ القديم. شروط الراهن لا تختلف عن تلك منذ عقود. ترامب أعلن انسحاب بلاده الكامل من سوريا في ديسمبر 2018، فقال الأكراد إنها طعنة في الظهر. وأعلن الرجل سحب قواته منذ أيام من أمام التقدم العسكري التركي، فأعاد الأكراد الشكوى من طعنة جديدة في الظهر.
حزب العمال الكردستاني في تركيا مُدرج على لوائح الإرهاب في العالم. تتهم تركيا أكراد سوريا و”وحداتهم” و”حزبهم” (حزب الاتحاد الديمقراطي) بأنهم امتداد لـ”الكردستاني” الإرهابي. لا أحد من أكراد سوريا أنكر العلاقة، وربما الولاء لذلك الحزب وزعيمه المسجون عبدالله أوجلان. ومع ذلك تعامل المجتمع الدولي مع “قسد” بصفتها حليفا كامل الأهلية ضد الإرهاب.
لا تريد تركيا كيانا كرديا شمال سوريا، حتى بالشكل الذي يتمتع به الأكراد في العراق، يكون امتدادا جغرافيا مع مناطق الأكراد في تركيا. روسيا تريد للأكراد أن يكونوا جزءا من خططها لتعويم نظام دمشق. إيران لا تريد لأكراد سوريا أن يشكلوا سابقة ممكن أن تنسحب، بعد تلك في العراق (إقليم كردستان)، على أكراد إيران. الأوروبيون يدافعون، دون حماس، عن صون الأكراد وحمايتهم، فيما واشنطن، لاسيما في عهد ترامب، تبيع وتشتري وفق ما تتطلبه البورصة السياسية، خصوصا في موسم الانتخابات الرئاسية، من رشاقة ومهارة دون أي اعتبارات أخلاقية.