المفترض أنه لا خلاف على أن إيران عندما تعرض «هدنة» أو تهدئة مع بعض دول الخليج العربي، فإنها غير جادة وغير صادقة، وإنها صاحبة «تقيّة» لا تريد إلا إطفاء جمرة جريمة «أرامكو» وإعطاء نفسها مزيداً من الوقت للملمة أوضاعها الداخلية وترتيب شؤونها العسكرية؛ وتحديداً في مضيق هرمز، حيث تصر على أنه «الخليج الفارسي»!! وهذا بالإضافة إلى «تنفيس» انتفاضة الشعب العراقي ضدها، وتطويق تصاعد رفض احتلالها للعراق وسوريا وأيضاً للبنان وقطاع غزة والمناطق «الحوثية».
ربما لا يعرف كثيرون أن الخميني عندما قام بثورته، وعاد إلى طهران بطائرة فرنسية في مطلع فبراير (شباط) عام 1979، كان مصمماً على غزو العراق، الذي كان لجأ إليه بعد مرورٍ عابر بتركيا في سبتمبر (أيلول) عام 1965 وغادره مروراً بالكويت إلى فرنسا، واحتلاله بدوافع مذهبية وطائفية وعلى اعتبار أن بلاد الرافدين كانت قد احتلها «الصفويون»، وبقوا يجثمون على صدرها إلى أن حررها العثمانيون في عام 1516.
والمعروف أن الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات كان قد سارع إلى زيارة طهران، بعد عودة الخميني من باريس إليها بأيام قليلة، بتشجيع ومباركة من معظم الدول العربية وعلى أساس أنه تم التخلص من شاه إيران محمد رضا بهلوي الذي كان قد احتل الجزر الإماراتية؛ طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى.
كان أبو عمار، وهو على وشك اختتام زيارته هذه إلى إيران التي شملت بالإضافة إلى العاصمة طهران مدينة مشهد في الشمال البعيد، ومنطقة عربستان العربية «المحتلة»، قد طلب من الخميني «همساً»، وهو يُهيئ نفسه للتوجه إلى أبوظبي في طريقه إلى بيروت، التخلي عن الجزر الإماراتية الثلاث آنفة الذكر كـ«عربون» علاقات أخوية مع العرب كلهم ومع الأمة العربية.
وكانت المفاجأة لأبو عمار وللذين رافقوه في تلك الرحلة (التاريخية) حقاً؛ ومن بينهم الرئيس محمود عباس (أبو مازن)، أن رد الخميني كان عصبياً وقاسياً، وأنه قال وهو يضرب بقبضته طاولة صغيرة كانت أمامه: «إن هذه الجزر إيرانية، وهي ستبقى إيرانية إلى أبد الآبدين»، ويومها ساد إحساس، لدى من سمعوا ما قاله زعيم إيران الجديد، بأن مستقبل العلاقات بين «إيران الثورة» والدول العربية القريبة والبعيدة؛ وفي مقدمتها دولة العراق التي كان يحكمها حزب البعث بقيادة الرئيس الأسبق صدام حسين، لن يكون مريحاً، والبعض قال إن الحرب بين إيران «الخمينية» وبلاد الرافدين «البعثية» باتت متوقعة في أي لحظة.
ولعل من المفترض أنه معروف أن العراق قد بادر إلى إعلان الحرب على إيران، التي كانت تستعد لاختراق حدوده واحتلال مدن الأماكن الشيعية «المقدسة»، من قبيل ما يسمى: «الدفاع الإيجابي»، أي الذهاب للخصم في عقر داره قبل أن يصل هو إليك في عقر دارك، وهكذا فقد كانت حرب الأعوام الثمانية التي انتهت بوقف لإطلاق النار قال الخميني إنه تجرعه كـ«تجرع السم الزعاف»!!.
وهكذا؛ فإن تجرع الخميني وقف إطلاق النار مع العراق كتجرع السم الزعاف، قد دفعه ودفع مساعديه الذين كانوا حوله إلى تجنب الحروب «التقليدية» المباشرة؛ إنْ مع هذا البلد العربي، أو مع باقي الدول العربية القريبة والبعيدة، واتباع أسلوب اختراق هذه الدول من الداخل، بالاعتماد - وللأسف - على بعض أتباع المذهب الشيعي الذين كانوا قد بادروا إلى «تسييس» هذا المذهب بعد الثورة الخمينية مباشرة وتحويل «بعضه» في بعض الدول التي يوجد فيها تاريخياً، من مذهب قومي ووطني انخرط في حركات التحرر العربية كلها، إلى بؤر تابعة لـ«الولي الفقيه» أصبحت مع الوقت تشكل قواعد عسكرية تابعة لـ«حراس الثورة» وكما هو عليه الوضع الآن في العراق وسوريا ولبنان والشطر «الحوثي» من اليمن.
ثم، وعلى هذا الأساس، فقد برز هناك ما سمي «الهلال الشيعي» الذي أرادت إيران أن يبدأ طرفه الأول باليمن وينتهي طرفه الثاني بمدينة اللاذقية السورية على شواطئ البحر الأبيض المتوسط الشمالية الشرقية، مروراً بمعظم دول الخليج العربي وبالطبع بالعراق الذي - وللأسف - بات وضعه هو هذا الوضع الحالي الذي دفع العروبيين العراقيين إلى هذه الانتفاضة الأخيرة، التي حتى وإن هي توقفت أو قد تتوقف، قد وضعت بلاد الرافدين على بداية طريق ستؤدي حتماً إلى التخلص من الهيمنة الإيرانية المباشرة وغير المباشرة... ويقيناً أن هذا سينطبق أيضاً على سوريا وعلى لبنان الذي أصبحت عاصمته الفعلية، وللأسف، ضاحية بيروت الجنوبية وحيث حلَّ «وكر» حسن نصر الله محل قصر الرئاسة التاريخي في بعبدا.
إن المقصود بهذا كله هو أن «طهران الخامنئية»، أو «الخمينية» لا فرق، عندما تلوّح للعرب عموماً ولـ«الأشقاء» في الخليج العربي بـ«البيارق البيضاء» وتسعى إلى هدنة في هذه المنطقة، فإنها تريد عملياً وفعلياً مجرد التقاط مؤقت للأنفاس وإنْ في هيئة هدنة مؤقتة للخلاص مما هي فيه من أوضاع اقتصادية غدت متردية، ومن ضغط داخلي متصاعد تقوم به المعارضة ممثلة في «مجاهدين خلق» بوصفها قوة طليعية، وتقوم به الأقليات القومية التي تسعى إلى الاستقلال كالعرب والكرد والبلوش وأيضاً كالآذريين... وغيرهم.
فماذا يعني هذا؟... إنه يعني أنه لا يجوز إعطاء إيران مثل هذه الفرصة لالتقاط الأنفاس وللانقضاض على المعارضة الداخلية بكل أشكالها وتشكيلاتها القومية والوطنية، فهذا النظام الذي هو صاحب «تقيّة» لا يمكن تصديقه ولا الثقة به، لذلك فالمفترض أن يتواصل الضغط عليه، وأن تتواصل العقوبات الاقتصادية وغير الاقتصادية ضده، فالميوعة السياسية في هذا المجال بالنسبة للذين خرجوا من جلدهم العربي والتحقوا بالحلف «الإخواني» - الإردوغاني الذي تقوده طهران، والذي يضم سوريا بشار الأسد، ولبنان حسن نصر الله، وحركة «حماس» التي أصبحت تابعة لـ«حراس الثورة» الإيرانية مثلها مثل «الحشد الشعبي» ومثل «الفيالق» العسكرية التي يقودها الجنرال قاسم سليماني، تعدّ تآمراً مكشوفاً على العرب والأمة العربية.
ثم إنه إذا كان لا بد من التعاطي مع مطلب «الهدنة» الإيراني، فيجب أن يكون «الشرط» أن تضع طهران حداً لكل هذا التوتير المتصاعد في الخليج العربي، وأن تنسحب نهائياً من العراق وبما فيه «الإقليم» الكردي، ومن سوريا، وأيضاً من لبنان، ومن صنعاء وبعض أجزاء شمال اليمن، وإلا فإنه: «لا يفلُّ الحديد إلا الحديد»، فالنظام الخميني لا يفهم إلا لغة القوة وعلى غرار ما جرى خلال حرب الأعوام الثمانية؛ إذ إنه كان «لا بد مما ليس منه بدُّ».
والمؤكد أنه في مصلحة العرب وفي مصلحة الإيرانيين أن تكون العلاقات العربية - الإيرانية قائمة على أساس حسن الجوار، والمصالح المشتركة، وعدم التطلع نهائياً خلف الحدود؛ لا في اتجاه الشرق ولا في اتجاه الغرب، فعالم اليوم غير عالم الأمس، وهذا يتطلب ألا يكون هناك كل هذه التوترات التي تفتعلها دولة الولي الفقيه في هذه المنطقة التي تواجه في هذه المرحلة توترات كثيرة.