لاحت نهاية الرئيس الأميركي دونالد ترامب في الأفق، أم لا، فإن مشكلته الحقيقية ليست في إجراءات عزله. إنها في الصلف. والصلف لم يبقَ له من يرحمه.
لقد أظهر ترامب مقدارا مبالغا فيه من الوقاحة في التعامل مع كل من يخالفه في الرأي. واستعدى بذلك الكثيرين ممن دعموه وممن عملوا معه وممن كانوا على صلة به، دع عنك من عارضوه.
فريق كبير في وزارة الخارجية الأميركية ينتظر اليوم الذي يرى فيه ظهر هذا الرئيس. ومثلهم في أجهزة الأمن، وفي مقدمتها “السي.آي. إيه”.
وبرغم أنه لا يزال يحظى بدعم الجماعات العنصرية والمتطرفين وأقصى اليمين الجمهوري، فقد استعدى، في الشارع، كل الآخرين.
ولا يزال بوسع الكثيرين أن يتذكّروا كيف كان يعامل منافسته الديمقراطية هيلاري كلينتون خلال حملتهما الانتخابية. إذ ظل يتوعدها بالسجن وبإعادة فتح التحقيقات المتعلّقة باستخدامها حسابها الشخصي للإيميل، بدلا من حساب وزارة الخارجية. بينما يجيز لنفسه التخابر مع دولة أجنبية لتحريضها على منافس له.
الصلف كان هو السبب الذي دفع العديد من حلفاء الولايات المتحدة التقليديين إلى النأي بأنفسهم عنه وعن خياراته. وهو نفسه الصلف الذي دفعه إلى أن يلغي التزامات الولايات المتحدة في اتفاقية المناخ عام 2015 والتي وقّعتها 195 دولة، اعترافا منها بالخطر الذي يمثّله التغيّر المناخي على العالم. إلا دونالد ترامب، فقد ظل يعاند كل الحقائق وكل تقديرات العلماء، وكل المتغيّرات الملموسة التي تتجه لتذيب القطب الشمالي برمّته.
ولئن آثر المحقق الخاص روبرت ميلر ألاّ يتشدد في الأدلة التي تثبت تورط ترامب بالتواطؤ مع روسيا لخدمة حملته الانتخابية، فإن التواطؤ المكشوف مع روسيا في مجالات إستراتيجية شتّى، كان واضحا. حيث سمحت سياسات “صنع الفراغ”، في أوكرانيا وسوريا وتركيا، لروسيا بأن تتمدّد فتكسب موطئ قدم بات من الصعب إزالته.
أكثر من ذلك، وبرغم أن القضايا التي أدّت إلى طرد روسيا من “مجموعة الثمانية” لا تزال عالقة، فقد دفع ترامب في اتجاه عودتها إلى هذا النادي الكبير للدول الصناعية الكبرى. حتى ألمانيا التي يهاجمها ترامب لاعتمادها على الغاز الروسي، لم تجرؤ على قبول عودة موسكو إلى ذلك النادي.
سياسات الابتزاز التي اتبعها ترامب مع حلفاء بلاده في الأطلسي، كانت منقلبا آخر من منقلبات الصلف، وكذلك تدخلاته الفظة ذات الدوافع الشخصية في الشؤون الداخلية لهؤلاء الحلفاء، الذين ظل ينظر إليهم باستعلاء وغطرسة شديدين دفعا إلى النفور منه ومن مخاطباته التويترية.
العلاقة المزاجية مع إيران كانت وجها آخر ليس أقلّ سوءا لطبائع الصلف. فالرجل لم تكن لديه سياسة واضحة حيال تهديدات إيران. وآثر أن يماطلها بالعقوبات، إنما من أجل أن يماطل خصومها في المنطقة لكي يشتروا سلاحا، من دون أن يوفر لهم في المقابل أي شراكة أمنية حقيقية. وأراد أن يُنشئ قوة بحرية لمراقبة حرية الملاحة في الخليج، ولكن ليس لردع إيران، وإنما للتمظهر بالقوة.
وفي حين ظلت إيران تمارس أعمالها العدوانية، وتزيد فيها، فقد ظل ترامب يماطل من أجل فتح حوار، لا من أجل إجبارها على الامتثال للقيم والأعراف الدولية. وعندما شنّت إيران عدوانها على منشآت شركة أرامكو، وضع ترامب ذيله بين فخذيه، تاركا لإيران الفراغ الذي يسمح لها بأن تقرر بنفسها وجهة التطورات.
وفي الواقع، فإنّ الكراهية كانت هي الدافع الرئيسي من وراء المماطلة مع إيران. الكراهية ليس لأعمال طهران العدوانية، بل للرئيس باراك أوباما الذي وقّع معها اتفاقا نوويا، كان بمثابة اختراق من ناحية الإرث السياسي. وكل ما أراده ترامب هو أن يوقّع اتفاقا لكي يسجل الاختراق باسمه لا باسم الرئيس السابق الذي ظل يكرهه كره العمى.
السعي إلى إرث شخصي هو الذي دفعه إلى البحث عن اختراق مع جماعات طالبان، ومع كوريا الشمالية. وكانت القصة كلها تتعلق بما يرغب ترامب بأن يلعب به لعبته الخاصة، بقواعده هو، لا بقواعد وأصول الدبلوماسية، ولا حتى بمصالح بلاده الإستراتيجية أو مكانتها في العالم.
بالصلف ذاته واجه التحقيقات التي دفعت الديمقراطيين في الكونغرس إلى فتح التحقيقات من أجل عزله. حتى أنه استخدم لغة أبعد ما تكون عن لغة رئيس.
هناك من موظفيه السابقين في البيت الأبيض، من يقول إنه يقود سلطته بعقلية رجل مافيا، لا باتزان وحصافة رئيس. وهو خلق أجواء من التوتر والمزاجية جعلت تسيير الأعمال، بما فيها أعمال مستشاري الأمن القومي، شيئا مستحيلا.
ليس من المرجّح أن تنتهي إجراءات العزل في الكونغرس إلى عزله فعلا. فالأمر يحتاج في النهاية إلى ثلثي مجلس الشيوخ الذي يسيطر عليه الجمهوريون أساسا.
رئيسان فقط، في التاريخ الأميركي، واجها إجراءات العزل هما بيل كلينتون عام 1999، في قضية ممارسة الجنس مع موظفة البيت الأبيض مونيكا لوينسكي، والرئيس أندرو جونسون عام 1868 لأنه أقال وزير الدفاع بعد 11 يوما من تعيينه لمجرد أنه اختلف معه. أما ريتشارد نيكسون، فقد آثر أن يستقيل قبل أن تبدأ إجراءات عزله، بعد اكتشاف أنه سمح بنصب أجهزة تنصت على المكالمات الهاتفية للجنة القومية للحزب الديمقراطي، في ما يسمى فضيحة “ووترغيت”، فبدا رئيسا محترما، مقارنة برئيس يحرّض دولا أجنبية على مرشح ديمقراطي منافس، ويعتبر تصرّفه صحيحا ويعاند فيه.
ترامب أقال وزيرين للدفاع ووزيرين للخارجية وطرد رئيس مكتب التحقيقات الفيدرالي وثلاثة مستشارين للأمن القومي، وعددا آخر من كبار موظفي البيت الأبيض، ولا يزال يتمتع بالصلف الذي يجعله يتهم ضباطا في “السي.آي.إيه”، ومسؤولين كبارا في الكونغرس بأنهم خونة ويستحقون الموت.
وقد ينجو ترامب من إجراءات العزل عن كبائره، إلا أنه لن ينجو مما زرعه الصلف. وما لم يجد من يُصدر عنه عفوا، فقد ينتهي، بالكثير من صغائره الأخرى، إلى السجن فعلا. ليرى العالم كله حينها، أن أكبر مشكلات ترامب هي ترامب نفسه.