يقول خبراء: لو تُرِك الاقتصاد اللبناني يواجه الأزمة بلا دعم خارجي، قبل 10 سنوات أو 20 مثلاً، لكان الوضع قد انتهى آنذاك إلى أحد احتمالين:
1 - اضطرار الطاقم السياسي إلى إنتاج حلّ حقيقي وإنقاذ الاقتصاد. وهذا هو المطلوب.
2 - الفشل والسقوط والانهيار. وهذا أمر سلبي، لكن الأزمة آنذاك ستكون أصغر بكثير من الكارثة المتوقعة اليوم.
آنذاك، كانت الحلول أسهل لأنّ حجم التعقيدات الاقتصادية والمالية والإدارية كان مقبولاً. وعلى الأقل، كان حجم الدين العام مثلاً ضمن الـ10 مليارات أو الـ20 ملياراً. وحتى لو فشلت الحلول آنذاك، فإنّ عواقب السقوط لم تكن كارثية، كما هي اليوم، تحت أعباء دينٍ عام يفوق الـ85 مليار دولار.
كان لبنان سيقع من الطبقة الثانية أو الطبقة الثالثة. اليوم سيقع من العاشرة. وتأجيل السقوط يتمّ «بفضل» شطارة الطاقم السياسي اللبناني وتذاكيه لتحصيل المساعدات من الجهات العربية والغربية المانحة، والمؤسسات الدولية.
في المبدأ، تتجاوب هذه الجهات مع لبنان، لأنها ذات مصلحة في استقراره السياسي والاقتصادي والاجتماعي، حتى حلول السلام في الشرق الأوسط. وجاء ملف النازحين السوريين، بعد النازحين الفلسطينيين، ليدعم هذا الهدف. فالمجتمع الدولي مرتاح إلى إلقاء كرة النزوح في بلدان الجوار السوري، وهو ليس مستعجلاً لإنهاء الملف قبل التسوية النهائية.
ومنذ «باريس1» عام 2001، استفادت طواقم السلطة المتعاقبة في لبنان من الأموال والمساعدات لتتقاسم المنافع. وهي ما زالت مطمئنة إلى أنّ القوى العربية والدولية لن تتخلّى عن دعمها لبنان. ولذلك، يتجرّأ الطاقم السياسي اليوم على «معاندة» شروط «سيدر». فهو تجاهل الإصلاح في موازنة 2019، ولا يبدو أنه سيتجاوب في موازنة 2020.
وهذه الصورة السلبية عبّر عنها بأقوى الأوصاف الموفد الفرنسي المعني بمتابعة «سيدر» بيار دوكان في زيارته الأخيرة، كما أكّدتها مناخات زيارة الرئيس سعد الحريري باريس.
لم تنفع محاولات الحريري إقناع الرئيس إيمانويل ماكرون بتجاوز انتقادات دوكان وبدء الإفراج عن المساعدات. وتبيّن أنّ الرئيس الفرنسي لا يقلّ قسوةً عن موفده ضد الفساد اللبناني. وبقي الحريري يراهن على تحريك الحدّ الأدنى من المساعدات في اجتماع اللجنة الاستراتيجية لمؤتمر «سيدر»، في 15 تشرين الثاني المقبل. لكن لبنان لا يستطيع الانتظار حتى هذا الموعد، لأنّ الانهيار المالي والنقدي بدا واقعاً خلال أيام قليلة أو حتى ساعات، ولا أفق للنجاة في ظل الحاجة إلى نحو 4 مليارات دولار لتسديد فوائد الديون المستحقة خلال الأشهر الخمسة المقبلة.
وإزاء الانهيار، وقف هذا الطاقم عاجزاً. فقط، أمامه طريق واحدة هي أن يمدّ اليد إلى الخارج، مرة أخرى. ولكن عليه مراضاة العرب الغاضبين من سلوك «حزب الله»، وإقناع الأميركيين بأنّ لبنان ليس خاضعاً لمشيئة «الحزب».
وثمة مَن يقول، إنّ واشنطن هي التي تشجع باريس على التشدُّد في ملف المساعدات، للضغط على لبنان كي يسير في نهج الشفافية والإصلاح. فهذا الأمر يؤدي تلقائياً إلى تجفيف مصادر «حزب الله» التمويلية.
إذاً، يتحرّك الحريري خارجياً لتدارك الأسوأ، بغطاء داخلي كامل. فجميع الذين في السلطة يحتاجون إليه. وطبعاً، هذا يُفترض أن يصبّ في مصلحة الحريري داخلياً.
ويستخدم لبنان حالياً كل طاقاته وخبرته في مجال الاستعطاء. وعلى الأرجح، هناك جرعات من الدعم المالي يُتوقع أن تصل خلال هذه الفترة، وأولها من الإمارات العربية المتحدة، وقد تليها مساعدات عربية أخرى.
على الأقل، لن يحذو العرب حذو الفرنسيين في اشتراط الشفافية للحصول على المساعدات. وهذا أمر يريح طاقم السلطة المنزعج من التشدّد الفرنسي. كما أنّ البنك الدولي ربما يُفرج عن مساعدات لبعض البنى التحتية والخدمات الاجتماعية، مقدارها 1.7 مليار دولار.
وهذا الأمر سيشكّل إفراجاً جزئياً عن أموال «سيدر» ما قد يثير استياء الفرنسيين من تصرُّف اللبنانيين الملتوي في هذا الملف، وتهرّبهم من الإصلاح.
وفي الخلاصة، «يستقتل» أهل السلطة للحصول على المال حالياً، ما يؤجّل سقوط البلد مرّة أخرى... في انتظار المجهول. وقد ينجح هؤلاء في إقناع بعض العرب وغير العرب باستجلاب ودائع مصرفية إلى لبنان أو شراء سندات خزينة أو إطلاق بعض المشاريع.
وإذا حصل لبنان على بعض الدعم، وتجاوز اللحظة الحرجة، فسيكون طاقم السلطة قد ربح الجولة على ماكرون وأفهمه أنّ لبنان قادر على تحصيل المال، من دون مِنّة فرنسا والطاعة لشروط الإصلاح.
على الأرجح، لن يستغرب الفرنسيون سلوك هذا الطاقم السياسي، هم يعرفونه جيداً. لكن الخاسر الحقيقي هو لبنان، الذي كانت تلوح أمامه فرصة جدّية للإصلاح فأُهدرت. وأما المستفيدون من المزرعة ومزاريبها وأوكارها وأبقارها الحلوب فـ«آخر هَمِّهم» أي شيء آخر.