حين خطر لأحد التلاميذ اليافعين المتأثرين بموجة الربيع العربي، في فبراير عام 2011، أن يكتب على أحد جدران مدينة درعا عبارة “إجا دورك يا دكتور”، كان يمكن للسلطة، لو كانت عاقلة وتحترم الحد الأدنى من حقوق شعبها، أن تُلفلف القضية بهدوء، وتكتفي بجرة أذن ذلك التلميذ، وآذان رفاقه الآخرين الصغار، وتمر العاصفة بسلام، ويستمر بشار الأسد وأخوته وأبناء عمومته في حكم سوريا بالمخابرات والعصابات والاغتيالات والاعتقالات، وبالاستغلال والسرقة والاختلاس، ودون معارك طاحنة مع شعبه الذي ظل ساكنا ساكتا على الظلم والفساد عشرات السنين.
ولكن رئيس النظام المتجبر المتكبر، وارثَ العنف الدموي وفلسفة العقاب الجماعي من أبيه، لم يأمر بمعاقبة التلاميذ، وحدهم، بل أمر وكيله في درعا بإهانة آبائهم إهانة جارحة لا يمكن أن تمر دون احتجاج، لتنطلق التظاهرات الشعبية الغاضبة المطالبة بمعاقبة المسؤول، ليس أكثر.
وحين واجه النظام تظاهرة درعا بالرصاص الحي بكل قسوة وهمجية، كما تفعل اليوم حكومة عادل عبدالمهدي وميليشيات الحشد الشعبي، تفجرت التظاهرات الشعبية في أغلب المدن والقرى السورية، تضامنا مع درعا.
ثم بعد أن أمعن النظام في القتل والحرق والاغتيال صدحت الجماهير بهتافها الشهير، “الشعب يريد إسقاط النظام”، ثم حملت السلاح لردع قطعان شبيحة النظام التي بدأت تهاجم الحارات وساحات الاعتصام ومنازل المواطنين بكل أنواع الأسلحة والعتاد.
ثم شيئا فشيئا وسع النظام الإيراني حملات ميليشياته اللبنانية والعراقية للفتك بالمتظاهرين، ساعده على ذلك ابتلاء الثورة السورية بإرهابيين طائفيين سنة متبرقعين بالدين الإسلامي وبالجهاد، من بقايا القاعدة وعصابات أبي مصعب الزرقاوي وغيرها، ثم داعش أخيرا. فقد هيّأ وجود هذه العصابات لإيران، ثم لروسيا بعد أن دعتها إيران لمعاونتها على الظلم والعدوان، ذريعة لشن حرب إبادة ضد كل سوري معارض للديكتاتور، سواء كان وطنيا شريفا نزيها، أو غير وطني وغير نزيه ولا شريف.
ومعروف حجم الدمار الذي حل بالمدن السورية، وأعداد الشهداء والجرحى والمعتقلين والمفقودين والمهجّرين الذين تتحمل إيران دون غيرها، كامل المسؤولية عن ذلك الخراب والدمار.
تقودنا هذه المقدمة المحزنة إلى انتفاضة جماهيرنا العراقية الحالية التي بدأت سلمية لا تطلب أكثر من وظيفة للعاطل ودواء للمريض وأبسط الخدمات الأساسية الضرورية، ومحاسبة اللصوص الذين اختلسوا أموال الدولة، وتسببوا في عذاب الملايين وفقرهم وضياع مستقبل أجيالهم القادمة.
ويبدو واضحا أن الحكام العراقيين لا يملكون حلولا صادقة ومخلصة وجذرية فاعلة لترضية الجماهير. إنهم فقط يحاولون خداع الجماهير وتخديرها بوعود ليس لديهم القدرة ولا الصلاحية لتنفيذها. منها مثلا أن رئيس الوزراء تعهد بتقديم الفاسدين إلى القضاء. وأما حزمة الإصلاحات التشريعية والمالية والإدارية التي وعد باتخاذها فلن تكون أكثر من هواء في شبك. وبهذا يصبح العراق على مفترق طريقين:
فإما أن يستلهم عبدالمهدي وميليشيات الحشد الإيراني جنون بشار الأسد وعناده في مواجهة المتظاهرين بكل أنواع الأساليب والمعدات والأسلحة، وصولا إلى البراميل المتفجرة، ثم يضطر في النهاية إلى الاستعانة بالحرس الثوري، دفاعا عن الوجود الإيراني المهدد في مدن الطائفة الشيعية وقراها، ليصبح العراق سوريا ثانية، خرابة تسكنها الصراصير والبوم والغربان.
وإما أن يفاجئ العالم بتحوله إلى نيلسون مانديلا جديد فيتخلى عن السلطة، سلميا، ويتنازل عن الحكم لهيئة إنقاذ وطني مستقلة تتولى إدارة شؤون البلاد والعباد بإجراءات وسياسات عقلانية جديدة لإصلاح ما يمكن إصلاحه قبل فوات الأوان. ولكن هذا من رابع المستحيلات. فإن من الصعب جدا على عبدالمهدي أن يجنح إليه، لأنه عبدٌ مأمور لا يملك حتى قرار الاستقالة.
إذن فمع غياب الحلول، ودون استقالة الحكومة والبرلمان، ومع استمرار حملات القتل والاغتيال والقنص والاعتقال، لن يعود للجماهير المنتفضة خيار سوى الرد على النار بالنار، وعلى القنص بالقنص، وعلى الرصاص بالرصاص، والبادي أعظم.
مع القناعة الكاملة بأن أكثر من سفارة أجنبية وعربية، وأكثر من جهاز مخابرات عربي وأجنبي في انتظار الساعة المناسبة للنزول إلى الساحة المشتعلة لصب الدولارات والريالات والدنانير، وأطنان الأسلحة والذخيرة والمعدات، هدايا وإكراميات لهذه الجماعة أو تلك من فرق المتظاهرين، لكي تبدأ حلقات المسلسل السوري البغيض، ولكي يصبح العراقيون الذين لا يستطيعون الهروب من المحرقة ما بين قاتل أو مقتول.
فإن لم تهبَّ جماهير المحافظات، جميعها، لنجدة المنتفضين، وتطويق المنطقة الخضراء، بسرعة ودون تأخير، ودون مفاوضات مع أعدائها وسراقها وجلاديها، وفرض الخناق على جميع الرؤساء والوزراء وقادة الميليشيات الإيرانية، وفي طليعتهم قاسم سليماني وسفير الولي الفقيه، ومقايضة إيران بهم، كما فعلت وتفعل هي دائما مع خصومها، فإن الأمد لو طال، وتمكنت إيران من إرسال جيشها وحرسها الثوري قبل اعتقال وكلائها، وقطع الطريق عليها، فإن الثورة والثوار في خطر مؤكد.
أما الآن فمن الصعب على المتابع لما يجري في العراق أن يتنبأ بمصير المواجهات، لأنها هذه المرة لن تبقى بين جماهير غاضبة وبين حكومة وبرلمان، بل ستكون بين إيران، التي لا تستطيع أن تتحمل كلفة الخروج مهزومة مطرودة من العراق، خصوصا في ظروفها الصعبة الحالية، ماليا وعسكريا وسياسيا، وبين شعب وصلت النار الحارقة إلى لقمة عيشه وعيش أطفاله ومَرضاه وجياعه، فأصبح من غير السهل عليه أن يتوقف عن الثورة حتى تتحقق مطالبه المشروعة، مهما بلغت التضحيات، ومهما غلا الثمن.