وفق السيناريو المُتداول، يُفترض أن تظهر التشققات سريعاً في الحكومة الحالية وتسقط، ما يزيد الإرباك السياسي والمالي والنقدي. ولأنّ تشكيل حكومة بديلة في هذه الظروف سيكون مهمّة شبه مستحيلة، تحت ضغط الشارع والنقمة الشعبية، فالأمر يستدعي استيلاد سلطة جديدة تبدأ بانتخابات نيابية مبكرة، على أساس قانون انتخاب جديد أكثر قدرةً على إنتاج طاقم سياسي بديل.
وفي المبدأ، سيكون هناك اعتماد أكبر على النظام النسبي، لأنّه يتكفّل بخلط الأوراق، فلا يمكن معرفة الفائزين مسبقاً، كما كان يحصل في القوانين السابقة.
ولأنّ الاتفاق على القانون الجديد، في ظل تضارب المصالح السياسية والطائفية والمذهبية، سيكون أمراً عسيراً، فسيجلس الجميع إلى طاولة حوار للبحث في نظام سياسي جديد، يكون بديلاً من الطائف الذي أدّى وظيفته في تنظيم خروج لبنان من الحرب وتحضيره لمواكبة التحوُّلات الكبرى في الشرق الأوسط. والنظام الجديد هو الذي سيرعى دخول لبنان في قلب هذه التحوُّلات.
وعلى الأرجح، لا توفّر الأجواء فرصة للانقلاب على الطائف. والنظام الجديد سيكون أقرب إلى تصحيح ثغرات الطائف وتنفيذ بنوده العالقة حتى اليوم، خصوصاً لجهة إلغاء الطائفية وانتخاب مجلس نيابي خارج القيد الطائفي، وتشكيل مجلس للشيوخ متوازن طائفياً ومذهبياً، ويمثّل كل الشرائح بدقة، وتكون مهمته حسم المسائل الميثاقية الكبرى. وهو سيمنح الجميع طمأنينة إلى عدالة حضورهم الميثاقي والشراكة في النظام.
ويجري تداول احتمال التوجُّه إلى انتخابات نيابية مبكرة، لأنّ ظروف الانهيار الشامل ستفرض ذلك، من أجل إنتاج السلطة الجديدة والقادرة على إنهاض البلد.
فالناس الناقمون في الشارع سيحمّلون الطاقم السياسي القائم حالياً مسؤولية الانهيار والفساد. وقد يأتي سقوط الحكومة بالاستقالة قبل حصول الانهيار، تهرّباً من تحميل أركانها المسؤولية، وقد يأتي بعد الانهيار. إذ تجد الحكومة نفسها في وضعية العاجز عن حمل كرة النار، فتسارع إلى رميها ودعوة الجميع إلى المشاركة في البحث عن مخرج.
ويقول الذين يتداولون هذا السيناريو، إنّ التغطية الدولية والإقليمية لعملية إنتاج النظام الجديد موجودة. فالمملكة العربية السعودية ستوافق عليه، وكذلك الأميركيون والفرنسيون. وبعد ذلك، سيكون ممكناً توفير العناصر التي تساعد لبنان في النهوض الاقتصادي مجدداً، سواء بالمساعدات والقروض الخارجية أو ببدء استثمار الطاقة النفطية.
فالانهيار سيحتّم على الجميع الرضوخ للواقعية ورسم خطة للنهوض الاقتصادي من الصفر، وهو ما يُسمّى reset. ونجاح هذه العملية يستلزم إنتاج طاقم سياسي جديد سيوفره النظام السياسي الجديد. وسيعني ذلك عملياً ولادة الجمهورية الثالثة في لبنان.
فالجمهورية الأولى، عام 1943، واكبت مرحلة الصراع العربي- الإسرائيلي واندلاع الحرب في لبنان. والثانية بعد الطائف، عام 1989، واكبت انتهاء الحرب في لبنان وانطلاق حروب «الربيع العربي» وتغيير الأنظمة.
أمّا الجمهورية الثالثة، قيد الولادة، فستواكب الواقع الذي سيرسو عليه الشرق الأوسط من جديد، بعد انتهاء الصراع العربي- الإسرائيلي وطيّ الملف الفلسطيني. وتضغط إدارة الرئيس دونالد ترامب لتحقيق هذا الهدف الإقليمي قبل انتهاء ولايته بعد عام.
ويمكن التأمّل في ما يشهده العراق حالياً، من اهتزازات سياسية واقتصادية واجتماعية، تزامناً مع لبنان. ومرّة أخرى، يبدو لبنان والعراق وكأنهما في المرآة، الواحد قبالة الآخر. فما يجري في أحدهما يكون نسخة طبق الأصل عمّا يجري في الآخر. والتشابك في العناصر بينهما معروف منذ الثورة الإسلامية.
الذين يتداولون بسيناريو التغيير اللبناني يقولون إنّ ظروفه الداخلية تتكامل، وإنّها ستبلغ اللحظة الحاسمة عندما يبلغ الجميع حال العجز عن معالجة الأزمة. ويعتقدون أنّ محاولات العلاج اليوم ليست سوى حقنة مخدّر لن يدوم مفعولها طويلاً، خصوصاً على الصعيد المالي- النقدي.
ووفق هؤلاء، إنّ الظروف الخارجية أيضاً ملائمة لتغطية التسوية المنتظرة في لبنان. فهناك حوار سعودي- إيراني مستمر خلف الكواليس، كما أنّ الحوار الأميركي- الإيراني على وشك أن يبدأ، وستكون لهذين الحوارين تأثيرات حاسمة في مسار الأزمة في لبنان.
وفي تقديرهم أنّ تحقيق التغيير يستلزم ارتفاع الحرارة على الأرض إلى درجة الغليان، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً. وهذا الأمر صار ممكناً أكثر فأكثر، بعدما وصل إلى الذروة في مراحل سابقة، ثم اصطدم بالحائط المسدود.
والحائط المسدود هو تحديداً ذاك الذي يبنيه الطاقم السياسي دفاعاً عن نفسه، ولمنع سقوطه. وهو لذلك يستعجل الحصول على المال الخارجي، بأي ثمن، لعلّه يطيل فترة إقامته السعيدة في جنّات السلطة، حيث يتمتع بـ«أنهار اللبن والعسل» بلا حسيب ولا رقيب.