لقد وقع عادل عبدالمهدي في الخطأ الاستراتيجي الكبير حين اختار أن يظل بعيدا عن موقع انتفاضة الأول من أكتوبر للشباب العراقي، وأن يبقى متمسكاً بالكهولة السياسية والخضوع لإرادة من جاؤوا به للسلطة. كان بإمكانه أن يختزل ذلك العمر الطويل من التجربة السياسية وأن يوفي لشبابه ويستجيب للمطالب المشروعة للعراقيين ونخبهم الشبابية الذين سالت دماؤهم في شوارع الفتح الجديد الذي يسطره الشباب، وأن يتخذ إجراءات إنقاذية تتناسب مع الوضع الجديد، وليس بخطاب إنشائي ومنطق المتهادن والمتوسل لقادة الكتل كي يمنحوه مزيداً من الصلاحيات، فرمى الكرة في خطابه التبريري إلى البرلمان طالباً منحه الصلاحيات في إعادة النظر بتشكيلة حكومته، مكرراً ما فعله سلفه حيدر العبادي فيما ردّ الكرة بعد ساعات رئيس البرلمان إلى ساحته لدرجة أنه زاحم السلطة التنفيذية، ثم اتخذ بعض القرارات الترقيعية بالتنسيق مع رئيس البرلمان.
وجد عبدالمهدي في بيان المرجعية الشيعية دعماً له لكنه نسي أن ذات المرجعية التي يتعكز عليها سياسيو العملية السياسية سبق أن أعطت الدعم لسلفه العبادي، لكنه لم يقدم شيئاً وبرر ذلك بالمعركة ضد تنظيم داعش رغم أن تلك المعركة لم تكن حرباً شاملة تمنع التنمية والتطور في باقي محافظات العراق، لكنه تبرير موظفي العملية السياسية التي هي سبب كل ما قدمه شعب العراق من تضحيات ومن دماء اللحظة التاريخية الراهنة لشباب العراق.
وإذا كان الحديث عن المبررات والذرائع مقبولاً رغم أنه خارج الزمن، فإن ظرف عبدالمهدي اليوم مختلف، فقد دعمته القوتان البرلمانيتان الكبيرتان وقيّدتاه بمنهجهما وطمعهما في الهيمنة على المناصب الحكومية، لكنه لم يطلق الرصاصة الأولى على الفاسدين وآثر التراضي مع الأحزاب داخليا، وإيران المخرّب الأول للعراق خارجياً.
وفي ظل مناخ الانتفاضة الشبابية التي قدمت أكثر من 120 شهيداً إلى حد كتابة هذه السطور وقد يزيد العدد بالعشرات، اعتقد عبدالمهدي أنه بإصداره قرار إزاحة ألف موظف صغير متهم بالفساد سيضع نفسه في مكانة المحارب الكبير للفاسدين، لكن زميله رئيس البرلمان كان أكثر منه جرأة حين دخل عش السلطة التنفيذية في لقائه بنماذج قيل إنهم من المتظاهرين لكنهم ليسوا معبرين عن الانتفاضة الكبيرة، واتخذ قرارات كان يمكن أن تكون جزءاً من برنامج المصلح الاقتصادي عبدالمهدي، بما يكشف الخدعة الكبيرة لقيادة العملية السياسية من أن هناك إمكانيات وقدرات مضمومة ظهرت فجأة في المؤتمر الصحافي لرئيس البرلمان الذي له الفضل في كشف هذه الحقيقة وليس في إمكانيات تنفيذها.
في لحظة تاريخية قبل انفجار الانتفاضة كان يمكن لعبدالمهدي أن يتحول إلى زعيم شعبي يرفع الظلم والجور عن شباب العراق كله وأبناء طائفته التي حمل ورفاقه في سنوات المعارضة مظلوميّتها. وخياره الفاشل هذا ضيّع عليه تلك الفرصة التاريخية ونفذ منطق الدولة البوليسية الجائرة التي تقتل المتظاهر وتصفه بأوصاف مهينة ومستفزة لكرامته وتاريخه الطويل، عبر سلسلة الإجراءات الأمنية العقابية مثل قطع خدمة الانترنت واصفاً إياه “بالدواء المر”، وهو توصيف لا يبرّئه من المسؤولية.
حاول رئيس الحكومة وقادة الأحزاب تمييع حدود الخصومة بينهم وبين الشعب، فعبدالمهدي يساوي بين الضحية والقاتل في هذه الانتفاضة، ويبرر إجراءاته بأنها حماية لسلطة القانون مع أنه يعلم عبر التقارير التي تصله يومياً أن المتظاهرين هم أكثر حرصاً على إخوانهم الشرطة والقوات الأمنية، وأكثر حماية للمباني والمؤسسات الخدمية الحكومية رغم أنها لم تكن مقرات لخدمات المواطنين، وإنما أعشاشا للسرّاق وناهبي ثروات الشعب، وأصبحت خلال أيام الانتفاضة المباركة مكاناً للقنّاصين المرتبطين بجهات معروفة، الذين يقتلون الشباب بهدف إشعال حرب داخلية تجعل العراق مسرحاً شبيها بسوريا. وهم أنفسهم الذين هاجموا مكتب قناة العربية والحدث في بغداد واعتدوا على موظفيها وكذلك قناتي دجلة و”أن.آر.تي” لأنها كانت تنقل الوقائع بحرفية واستقلالية.
هناك لعبة مزدوجة تجري اليوم على هامش حركة انتفاضة شباب العراق ذات جانبين؛ محلي وخارجي إيراني الهدف منها قمع إرادة الشعب العراقي وتغيير الوجوه وليس المنهج. الجزء الأول منها يهدف إلى إزاحة عادل عبدالمهدي الذي يصارع من أجل البقاء في السلطة معتمداً على ما يعتقده دعم المرجعية الشيعية له رغم تخلي الجناح البرلماني الكبير (مقتدى الصدر) عنه، ويظهر على مسرحها كل من نوري المالكي “البطل المنقذ للعملية السياسية” وحيدر العبادي رغم ابتعاده عن طهران التي عاقبته.
أما الجزء الثاني فهو إيران التي لا تسمح بأي تحرك شعبي يرفع شعار “إيران برّة برّة” ويواجه هيمنتها في العراق التي تشكل الجزء الأكبر من المشكلة العامة في العراق، وهي لا تتردد في قمع شباب الانتفاضة وسحقهم ولا يهمّها أن تجعل من شوارع بغداد نهراً من الدم. لكن ما حصل لاستيعاب الانتفاضة عقّد المشهد أكثر، فبرزت الأحصنة المتعبة الفاشلة لتلعب دور المنقذ والمصلح للعملية السياسية بتوافق ليس غريباً بين رموز من الخاسرين والفاشلين ورموز الاستبداد لفترة ما قبل عبدالمهدي في تبنّ غير صادق لدعم الانتفاضة الشبابية وطرحهم لمشاريع هي عبارة عن تكرار لذات الفشل والخضوع لاستحكامات هيمنة الأحزاب الشيعية الكبرى المرتهنة لطهران، ضمن سياق اعتقاد واهم للأحزاب الطائفية الشيعية أنها تمكنت من ترويض الجمهور الشيعي بعد تدميرها للجمهور السني عبر غطاء المشاعر “الحسينية” حين بالغت في تكريس مظاهرها.
انتفاضة الشباب الشيعي اليوم هي تعبير عن معاناة إخوتهم الآخرين الآلاف من أبناء السنة الذين لم تعرض قضيتهم في هذه الحلقة من المواجهة بين السلطة والشباب لكي لا يتم استغلالها سياسياً من قبل الخطاب الطائفي الإيراني. وبعد صمت المعمّمين من المتطرفين الشيعة، أخذت الآن ترتفع أصواتهم مطالبة بما يسمونه “الحفاظ على حكم الشيعة من محاولات الأعداء لإزاحته”، وقد هدد أحد أعمدة الشيعة المتطرفين (وهو جلال الصغير) بأنهم سينزلون بسلاحهم للشوارع للتصدي لما أسماه “النواصب والوهابية والبعثيين الذين يتظاهرون لإسقاط دولة الحسين”، وقد تبتكر القيادة الموجهة للنظام السياسي في العراق أساليب جديدة رغم أنها فاشلة، الهدف منها تمييع أزمة العراق السياسية عبر تجزئة المشكلات وتحويلها إلى قضايا خدمية يمكن حلّها بالوعود المبرمجة أكثر قصراً زمنيا، مثلما طالب مقتدى الصدر بحصر المطالبات الشعبية بالخدمات فقط، واتهام بعض الزعامات السياسية بأن رافعي الشعارات السياسية هم مدسوسون من أميركا أو غيرها. وهي محاولة لتجاهل العقل الشبابي العراقي وإهانته.
قد تتمكن سلطة الحكم وأحزابه وبمساندة الميليشيات المسلحة من إيقاف المظاهرات عبر أساليب وأدوات القمع والقتل وقطع الانترنت ومنع التجوّل التي لا تمت بصلة للنّظم الديمقراطية، واستخدام القناصة في اصطياد الشباب الثائر، لكنها لن توقف الانتفاضة الشبابية التي حركت الأحزاب الحاكمة والتي هي سبب الكارثة لوضع ترتيبات قد تقود إلى تحكم أكبر للقوى الموالية لطهران بصورة أكثر تأثيراً تحت عنوان التغيير. ولا مخرج للأزمة المتفجرة حالياً سوى باعتراف علني لقادة النظام السياسي وأحزابه بالفشل، وهم مجبرون على هذا الخيار بعد أن أخذوا فرصتهم لستة عشر عاما في السلطة والنهب والفشل، وأن يتولى المسؤولية السياسية من أثبتت التجربة حرصهم على بلدهم عبر مشروع للتغيير دعوت إليه منذ سنوات عبر جريدة العرب، وشاركني فيه الكثير من العراقيين، تتم من خلاله عملية اختيار لممثلين من بين قادة الحراك الشعبي منذ عام 2008 ولحد الآن، إلى جانب بعض قادة الجيش البواسل الذين أثبتوا جدارة في الدفاع عن الوطن، وكذلك الشخصيات الوطنية العراقية التي أكدت بمواقفها انحيازها إلى قضايا الشعب ومطالبه وبعض السياسيين غير المتورطين بالفساد والفشل وبعض قادة المجتمع المدني ونخب المثقفين غير الطائفيين، وفق آلية تشكيل لجنة تحضيرية من بينهم تدعوا إلى مؤتمر وطني عراقي إنقاذي بعيداً عن الطائفية يضع برنامجاً سياسياً عراقياً يدعو إلى تنفيذ بعض الإجراءات العاجلة، بما يمنع الانفلات الأمني عن طريق تشكيل حكومة طوارئ وهيئة عسكرية عليا من خارج الأحزاب والميليشيات تدير الوضع الأمني الوطني وتمنع التدخلات الخارجية، وتجميد أعمال البرلمان لحين موعد الانتخابات المبكرة وتعديل الدستور وبإشراف مباشر من الأمم المتحدة. هذه فرصة تاريخية للعراقيين لامتلاك إرادتهم السياسية بأيديهم.