التونسيون اليوم أمام خيارين: سعيد الذي يشبه الرئيس الأفقر في العالم خوسيه موخيكا والقروي الذي يشبه دونالد ترامب بماله وفساده وشعبويته، ولكن يبدو أن الأوفر حظا هو سعيد الذي يرفض التواصل حى الآن مع أي فصيل سياسي، ويخشى التونسيون أن يتحول سعيد بزهده المبالغ فيه إلى منصف مرزوقي ثاني، يسهل عزله وابتلاعه من قبل حيتان السياسة، خاصة أن الحكومة تنبثق من الكتل الأكبر بالبرلمان وبيدها كافة الصلاحيات .
كانت نتائج الانتخابات الرئاسية التونسية استثنائية إلى حد الغرابة..!! تمكّن مرشّحان من الوصول إلى المرحلة الثانية، أطاحا بأكبر الأحزاب، حزب النهضة الإسلامي، وحزب "نداء تونس" (العلماني الليبرالي)، الذي كان ينحدر منه الرئيس السابق الباجي قايد السبسي، وكان مرشّحه وزير الدفاع عبدالكريم الزبيدي. كما أطاحا برئيس الحكومة السابق يوسف الشاهد، ورئيس تونس الأسبق المنصف المرزوقي.
وجهُ الغرابةِ الأولُ يكمُن في طبيعة تلك الشخصيات، التي تمكّنت من الإطاحة بالمنظومة السياسية والأحزاب الكبرى السابحة في بحيرات هذه الديمقراطية الناشئة. المفاجأة الكبرى أتت من قيس سعيّد، المرشح الذي حلّ في المركز الأول، والأستاذ الجامعي المختص بالقانون الدستوري، والذي حصل على 18.8% من الأصوات.. والمفارقة أنه لا يملك أي خبرة سياسية. ومكمن العجب يبدأ بترشّح سعيّد للانتخابات، حيث إن من رشّحه هم طلابه..! الذين أحبوه "لدماثة خلقه وتواضعه وتسامحه وإغداقه العلامات عليهم". قام الطلاب (المخلصون) بتدشين صفحة لسعيّد على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، وبدأوا يروّجون له حملات انتخابية ضمن فئة الشباب، فيما سعيّد لم يكن يظهر على وسائل الإعلام التقليدية ماعدا مقابلة "يتيمة" له مع إحدى الإذاعات التونسية.
شخصية سعيّد أيضا كانت محل انتقاد التونسيين، فلقّبوه بـ"الرجل الآلي" لأنه يتكلّم دون أن يستعمل حركات الجسد. كما أن سعيّد لا يتكلم إلا اللغة الفصحى، وهو ضليع بمكامنها، ويبدو كمذيع أخبار محترف بصوته الجهوري الجميل. لكنّ وجه الغرابة لا يقتصر على شخصية سعيّد فقط، بل أيضا على برنامجه الانتخابي الذي يقوم على إنشاء مجالس محلّية، والذي ينبثق من معادلة قانونية لا يكاد يفهمها إلا النخبة، (وهذه ليست من صلاحيات الرئيس التونسي التي تنحصر بالخارجية والأمن القومي).
أغلبُ الظنِ أن انتخاب سعيّد لم يكن لبرنامجه الانتخابي، بل بسبب شخصيته "المتواضعة" حد الزهد. فقد كان رغم "فقره"، الوحيد الذي رفض المنحة المقدمة من الدولة للمرشّحين للقيام بحملته الانتخابية، والتي تبلغ حوالي 35 ألف دولار، مبرّرا ذلك بأنها مال الشعب. ولعل هذه الخطوة كانت من أكثر الخطوات التي رفعت من شعبية سعيّد، لما استشرفه الناس فيه من نزاهة بمقام الرئاسة. خاض سعيّد حملته الانتخابية دون أن تُعلّق له صورة في كافة أنحاء البلاد، ودون أن يُقام له أي مهرجان انتخابي، ووعد في تغريدة على "تويتر" بأنه سينهي عهده مع السيارات الفارهة والقصور. ويُسجل له أيضا من مواقف خلال ترشّحه رفضه القاطع ملاقاة سفير أي دولة أجنبية، وأي فصيل سياسي، ما رفع وعضّد من رصيده الانتخابي.
هذه الشخصية "الطارئة على المشهد السياسي" دفعت الملايين إلى البحث عن الرجل على الشبكة العنكبوتية لمعرفة خلفيته السياسية والعقائدية، ليجدوا بضع معلومات تتحدث عن معارضته المثلية الجنسية، التي تتمع بقدر كبير من "الحقوق" في تونس مقارنة بالعالم العربي، وأنه ضد المناصفة بالإرث التي دعا إليها الرئيس السابق (السبسي)، ما دفع الأوساط "العلمانية المتحررة"، التي تسيطر على الإعلام التقليدي بتونس، لاتهامه بالسلفية، لتعود وتقول إنه محافظ.. لكنّ سعيّد أكد موقفه في مقابلته الوحيدة بعد الدورة الأولى للانتخابات التونسية على القناة التلفزية الوطنية الرسمية.
نأتي للمرشح الآخر، نبيل القروي، والذي حلّ في المرتبة الثانية بنسبة 15.6% من الأصوات، وهو شخصية على النقيض تماما من سعيّد، رجل أعمال ثري جدا، يملك قناة "نسمة" التلفزية، التي كان لها دور في نقل أحداث الثورة التونسية العام 2011، ويتربع على سوق الإعلانات في البلاد. وينتمي القروي إلى حزب "نداء تونس"، الذي كان يرأسه السبسي، وقبيل الانتخابات أسس حزب "قلب تونس".
عمل القروي مبكرًا على قطف أصوات التونسيين، وتحديدا من خلال جمعيته الخيرية "خليل تونس"، التي أسسها على اسم ابنه الذي توفي بحادث سيارة في العام 2016. عملت الجمعية على مساعدة المرضى وتقديم الإعانات الغذائية في المناطق المهمّشة البعيدة عن العاصمة. اتهمه خصومه باستغلال حاجة الفقراء للتصويت له، وسمّوا حزبه بحزب "المقرونة" باللهجة التونسية، نسبة إلى المعكرونة التي كان يوزّعها على المحتاجين وهي أكلة شعبية في تونس. ووصمه معارضوه بـ"المفيوزي" ورجل العصابات الخطير واتهموه بالشعبوية.
اتُّهم القروي بالتهرّب الضريبي وتبييض الأموال منذ العام 2016، إلا أن السلطات التونسية لم تلقِ القبض عليه إلا في أغسطس الماضي قبيل انطلاق حملته الانتخابية، ما دفع أنصاره لاتهام خصومه بالتآمر عليه كي يسقطوه بالانتخابات. استمر القروي في الترشّح والترويج لحملته رغم مكوثه بالسجن، ليسجل مفارقة تاريخية بفوزه بالدورة الأولى في الانتخابات الرئاسية من داخل السجن..!!
اعتبر الرئيس التونسي المؤقّت، محمد الناصر، أن وضع المرشح الرئاسي المسجون، نبيل القروي، وعدم تمكّنه من التواصل مع ناخبيه، قبل أسبوع من جولة الإعادة، سيكون لهما تداعيات خطيرة على مصداقية الانتخابات وعلى صورة تونس، بسبب عدم تكافؤ الفرص بين المرشحين، ما دفع المرشح السعيّد من باب "أخلاقي"- كما قال - إلى وقف حملته الانتخابية.
يرفض القضاء التونسي الإفراج عن القروي للمنافسة في الدورة الثانية، وفي ذات الوقت لا يُبطل ترشّحه للانتخابات.. ولكن ماذا لو فاز رجل الأعمال بالانتخابات؟.. هل سيكون أول رئيس منتخب من داخل السجن..؟!
يمكن القول إن نتائج الانتخابات التونسية كانت ثورة في صناديق الاقتراع على الطبقة السياسية المتمثلة بشكل أساسي بحركة "النهضة" الإسلامية، والأحزاب العلمانية، التي تعدّ امتدادا للنظام السابق، حيث اختار الشباب المتعلّم سعيّد لنزاهته وزهده، واختار الفقراء القروي، أملا بتحسين وضعهم المعيشي.
التونسيون اليوم أمام خيارين: سعيّد الذي يشبه الرئيس الأفقر في العالم "خوسيه موخيكا".. والقروي الذي يشبه "دونالد ترامب" بماله وفساده وشعبويته.. لكن يبدو أن الأوفر حظا هو سعيّد الذي يرفض التواصل حتى الآن مع أي فصيل سياسي، ويخشى التونسيون أن يتحوّل سعيّد بزهده المبالغ فيه أن يتحوّل سعيّد بزهده المبالغ فيه إلى "منصف مرزوقي ثانٍ"، يسهُل عزله وابتلاعه من قبل "حيتان السياسة"، خاصة أن الحكومة تنبثق من الكتل الأكبر بالبرلمان وبيدها كافة الصلاحيات.