لم يفهم اللبنانيون كيف انتهت حربهم الأهلية التي دامت 15 عاما بمجرد إنتاج دستور جديد. لم يخطر ببالهم طوال سنين ذلك الانفجار الدموي أن لبَّ العلّة التي أدت إلى كارثة يتعلق بتضخم صلاحية هذا المنصب وتقلصها في منصب آخر. سمعوا خلال تلك الحرب شعارات براقة تتحدث عن حماية المقاومة الفلسطينية والدفاع عن عروبة لبنان من جهة، وسمعوا عن القتال من أجل استقلال لبنان وسيادته وأحيانا فينيقيته من جهة ثانية. وحين انتهت هذه الحرب المقيتة جاءت المخارج مخالفة تماما للمدخلات.
السوريون هذه المرة يكتشفون أن العالم سيصنع لهم سلما وبلدا وازدهارا واستقرارا من خلال صناعة دستور لبلدهم. كان نظام بشار الأسد قد أخرج آخر نسخة لهذا الدستور عام 2012، ويَعِدُ تشكيل اللجنة الدستورية بالعبث بهذا الدستور بتغيره وفق ما تطمح المعارضة، وبإدخال تعديلات عليه وفق ما يتسرب بالكاد من منابر النظام. وفيما الجميع، معارضة ونظاما وأمم متحدة يبدي تفاؤلا، وكأن الفرج آت، لن يخفى على أي مراقب أن الأمر ملهاة لا يؤمن بها السوريون علاجا لمأساتهم، لكنه مع ذلك يمثل عدّة شغل جديدة مستوردة من الخارج للتعامل مع شأن لم يعد السوريون منتجين له أو صناعا لمآلاته.
والواضح أن الممثلين السوريين داخل العرض المسرحي الدراماتيكي انصاعوا لما أملاه كاتب السيناريو. روسيا ترعى أمر سوريا منذ سبتمبر 2015. تبرعت بتلك المهمة بعد أن محضها المجتمع الدولي بركته ورعايته. وروسيا هي التي تقود، دون منازع، الجبهة المدافعة عن نظام دمشق، بعد أن تولت الدوائر الإقليمية والدولية إهداء موسكو تواطؤا أعدم أي إمكانية لمقاومة داخلية نوعية تربك ورشة دولة جبارة يقودها فلاديمير بوتين.
إرادة موسكو هي التي تقف وراء النجاح في تشكيل اللجنة الدستورية. تقرر أمر هذه الآلية ضمن مسار سوتشي (الروسي) وليس ضمن مسار جنيف (الأممي). أذعنت الأمم المتحدة لكنها استطاعت، وربما اشترطت بطلب روسي، جرّ العملية باتجاه مسارها في جنيف ووفق ما يتسق مع قرار الأمم المتحدة 2254. وعلى هذا فإن البضاعة الروسية، التي سهّلت دول، مثل السعودية وتركيا ومصر والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة ودول أخرى، إنتاجها خاضعة لمزاج دولي سيفرض عليها معاييره قبل أي مصادقة على الملامح الأولى للعملية السياسية المتوخاة لإنهاء مأساة هذا البلد.
تتشكل اللجنة من 150 عضوا موزعين بالتساوي بين ثلاث جهات. 50 عضوا للمعارضة و50 عضوا للنظام و50 عضوا للمجتمع المدني. سنتان مرتا قبل أن يتم التوصل إلى صيغة ترضي جميع الأطراف. والحقيقة أن هذه الأطراف لم ترض إلا بعد أن قيل لها أن ترضى. تولّت عواصم أمر المعارضة، وتولّت موسكو أمر دمشق وطهران، وبين هذا وذاك تواطأ الجميع على استبعاد ممثلين عن “الإدارة الذاتية” الكردية. وللفطن أن يتساءل عن التعويذة السحرية التي ستخرج بدستور جديد يقبل به ثلثا هذه اللجنة على الأقل. ولنفس الفطن أن يتوقع أن من فرض تشكيل اللجنة ذات يوم سيفرض شكل الدستور على غرار ما حدث مع اللبنانيين في مدينة الطائف في السعودية عام 1989.
تكتشف روسيا أن ما حققته من نصر عسكري عاجز عن إعادة تعويم نظام بشار الأسد، وأنها إذا ما استمرت في جولاتها العسكرية الدموية، فإن ذلك لن يعيد إنتاج بلد تريد موسكو أن يكون قاعدة استراتيجية لها في المنطقة والعالم. يحتاج “انتصار” روسيا إلى اعتراف دولي لا يأتي. الدول التي يُعوَّل عليها للاستثمار الكبير من أجل إعادة الإعمار في سوريا تطالب بعملية سياسية تؤمن استقرارا لهذا البلد يَعِدُ بإعمار. لم تعد العواصم، حتى القريبة والقريبة جدا، تطالب برحيل بشار الأسد. تودّ فقط أن يتمم الروس مهمتهم بتقديم ملف كامل يقنع واشنطن، كما أوروبا واليابان وباقي دول العالم، بأن البلد المأزوم دخل حلا موضوعيا ناجعا. والحلّ لن يكون عادلا بالضرورة، طالما أن العدالة تخضع لوجهات نظر.
ليس صحيحا أن اللجنة الدستورية أعادت النقاش إلى السوريين كما قال جمال سليمان عضو هيئة التفاوض وعضو اللجنة الدستورية. وليس صحيحا أن تلك اللجنة تمثل نصرا للمعارضة كما صدر عن نصر الحريري رئيس هيئة التفاوض المعارضة. اللجنة ببساطة واجهة من واجهات الحلّ الروسي، الذي لا يمكن أن يرى النور إلا إذا بدد العالم الغربي الظلمات التي تحرم موسكو من جني الثمار. اللجنة ستكون صدى لجدل معقّد بين أصحاب المصالح الكبرى في العالم في تحري نقطة التقاطع بين الأجندات المتنافسة.
ستستضيف جنيف طويلا هذه اللجنة التي قد لا نسمع عنها الكثير. في ذلك الحدث ما لن يرتبط بمستقبل العمليات العسكرية في إدلب، أو بالجدل المتعلق بالمنطقة الآمنة شرق الفرات، أو بالسجال المتصل بالضغوط العسكرية لتقليص النفوذ الإيراني، أو بالورش المهتمة بمراقبة ممر طهران بيروت من خلال العراق. تمثل اللجنة تسليما دوليا بإسقاط بيانات جنيف والسلال الأربع التي خرج بها المبعوث الدولي السابق ستيفان دي ميستورا: هيئة حكم انتقالي، صياغة الدستور، الانتخابات العامة النزيهة، مكافحة الإرهاب.
على أن أمر اللجنة يمثل مع ذلك انتقالا من طور إلى طور داخل الصراع في سوريا. النظام يعترف بأنه لم يعد لوحده. يعترف أن هناك معارضة تشارك في صياغة مستقبل البلاد، وأن هناك مجتمعا مدنيا يمتلك أجندات قد تكون مستقلة عن المعارضة كما النظام. دمشق تعترف بأن هناك صراعا أهليا مشروعا وأن صراعها ليس فقط ضد جماعات إرهابية يجمع العالم على مقتها. موسكو تعبر عن الحاجة إلى شريك آخر غير دمشق وطهران في صناعة نظام سياسي في سوريا، فيما تركيا والسعودية ودول الجوار توفّر، حتى إشعار آخر، البيئة الحاضنة لمخرج ملائم لسوريا كما لها من أزمة هذا البلد. المعارضة من خلال تلك اللجنة تعترف بالنظام شريكا شرعيا يُمنعُ إسقاطه.
ومع ذلك لا تبدو أن الرواية الروسية للعقدة السورية ستُكتب وفق مزاج موسكو وحدها. كل الأطراف تجمع على أن الدستور ليس الحل، بل هو عنصر من عناصر الحلّ. ثم إن مشكلة سوريا ليست دستورا، بل قمعا وخوفا وأجهزة ونظام أمن لا تعالجه فذلكات قانونية يسهل قهرها. أُعلن عن تشكيل اللجنة الدستورية العزيزة على قلب روسيا، فاكتشفت واشنطن عبر سفيرتها لدى الأمم المتحدة أن على النظام السوري “الإفراج عن معتقلين يقدر عددهم بنحو 128 ألفا”.
اكتشفت واشنطن بهذه المناسبة أيضا أن النظام السوري استخدم غاز الكلور. أعلن وزير الخارجية مايك بومبيو أن الولايات المتحدة خلصت إلى أن نظام دمشق ارتكب الإثم في هجوم نفذه على إدلب، في مايو الماضي. أضاف الرجل أن “نظام الأسد مسؤول عن فظائع مروعة بعضها يصل إلى درجة جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية”.
ألحق موقف واشنطن ببيان دانت فيه سبع دول، هي أميركا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا والمملكة العربية السعودية ومصر والأردن، استعمال السلاح الكيمياوي في سوريا، مؤكدة عدم التسامح مطلقا مع استعماله.
ذهب السناتور الجمهوري الشهير لندسي غراهام بعيدا وأوصى الرئيس الأميركي دونالد ترامب “بالنظر في ضربة حاسمة هذه المرة ضد أفعال الأسد مشابهة لما حاول ريغن فعله مع القذافي”، مشيرا إلى أنه سيقدم قرارا إلى مجلس الشيوخ يعلن فيه أن الأسد مجرم حرب، ويتوقع من خلاله بأن يحصل على دعم من كلا الحزبين الرئيسين.
العواصم الكبرى تتبادل رسائل تفهمها. وفيما ستعمل دمشق على ألا يخسر الحكم فيها شعرة من نفوذه، ينحرف النقاش نحو نقطة ارتكاز سريالية: هل نسمي سوريا “الجمهورية السورية” أم “الجمهورية العربية السورية”؟