ذلك أنّ الرجلين، وكما يُشاع عنهما، دفنا «الشيخ زنكو» معاً منذ إبرام التسوية الرئاسية الشهيرة عام 2016، والتي أنتجت يومها انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية والحريري رئيساً للحكومة طوال الولاية الرئاسية. ولكن على مرّ الايام، طَوّر الحريري وباسيل، وبعِلم عون طبعاً، هذه التسوية استراتيجياً في اتجاه التعاون والتآزُر في الاستحقاقات اللاحقة، بما يُمكّن باسيل من الوصول الى سدة رئاسة الجمهورية سنة 2022، وبالتالي بقاء الحريري في رئاسة الحكومة طول ولاية عون، حتى وان حصلت ظروف فرضت تغيير الحكومة، على ان يبقى في هذه السدّة في حال انتخاب باسيل خلفاً لعون.
ولذلك، فإنّ فريقاً واسعاً من السياسيين، وحتى من عامّة اللبنانيين، لا يمكنهم تصديق أنّ الخلاف الظاهر حالياً بين الحريري وباسيل، أو بين التيارين الازرق والبرتقالي هو خلاف جدي ومُستحكم، بل انّ البعض يعتبره «خلافا تكتيكياً، أو مصطنعاً، للتعمية على ما ينسجه الطرفان من اتفاقات سياسية وغير سياسية في مختلف المجالات للحاضر والمستقبل بعيداً من الاضواء».
العارفون بما يدور في كواليس العلاقة «المستقبلية» ـ «العونية» يؤكدون انّ التنسيق بين الجانبين قائم على كل المستويات، وانّ تحضيراتهما ناشطة بقوة بالنسبة الى الاستحقاقات الدستورية المقبلة، وفي مقدمها الانتخابات النيابية والبلدية، وكذلك الانتخابات الرئاسية التي ستدور رحاها بدءاً من ربيع 2022 وتنتهي في الخريف من السنة نفسها، حيث ينتخب رئيس جمهورية جديد.
والعارفون أنفسهم يقولون أيضاً انّ باسيل «حَبَكَ» ترشيحه للرئاسة خارجياً، وتحديداً في بعض العواصم الغربية الكبرى، وإنّ اهتمامه بات منصَبّاً على تدعيم موقعه بما يمثّل على المستوى الداخلي في مواجهة خصومه السياسيين ومنافسيه الرئاسيين. وانّ الحريري، الموجود في صورة ما «أنجَزه» باسيل على هذا المستوى، لم يتردد خلال زيارته لواشنطن قبل أسابيع في الدفاع عن باسيل، خصوصاً بعدما لمّحَ البعض الى انّ لدى الادارة الاميركية نيّة فعلية لفرض عقوبات على حلفاء «حزب الله» وعلى شخصيات وقيادات سياسية على علاقة وثيقة به بينها باسيل، وقيل انّ الحريري نجح في إقناع الاميركيين بعدم الدخول في تدبير من هذا النوع لِما سيكون له من انعكاسات سلبية على الوضع اللبناني السياسي والاقتصادي والمالي على لائحة العقوبات الخاصة بحلفاء «حزب الله» وداعِمه.
على انّ هذا التصرّف الحريري دلّ الى مدى متانة العلاقة واستراتيجيتها بين الطرفين، والى تَبنّي الحريري ترشيح باسيل الرئاسي من الآن، ما يوحي وكأنّ الطريق باتت مفتوحة امام باسيل الى الرئاسة الأولى، وتالياً أمام الحريري الى رئاسة الحكومة في «العهد الباسيلي» المفترض انه سيسود بعد انتهاء «العهد العوني».
لكنّ الحريريين، الذين َينفون وجود مثل هذا «التحالف» بين الحريري وباسيل، إنكشفوا عند إعلانهم عن إلغاء حوار كان مقرراً ان يحصل في مقر تيار «المستقبل» في قصر القنطاري (قصر الرئيس الراحل بشارة الخوري) بين باسيل وقيادات «مستقبلية». ويبدو انّ هذا الحوار أراده الحريري، أو «المستقبليون»، لكي يتعرّفوا الى باسيل ويقتربوا منه اكثر كـ»حليف راهِن» وكـ»حليف استراتيجي» مرشّح لرئاسة الجمهورية بعد انتهاء ولاية عون، ومعه الحريري مرشحاً لرئاسة الحكومة.
وثمة من قال انّ هذا الحوار تقرر بناء على رغبة مشتركة عَبّر عنها الجانبان، في ضوء ما يتردد في قواعد تيار «المستقبل» والبيئة التي ينتمي اليها من كلام يذهب الى حدّ اتهام الحريري بتقديم تنازلات على حساب صلاحياته كرئيس للحكومة، وعلى حساب موقعه الزعاماتي في بيئته امام عون وباسيل، الذي يتصرّف أمام الشارع المسيحي على أنه «يستعيد» للمسيحيين حقوقاً إغتُصبت بفِعل «اتفاق الطائف»، أو أُخِذت منهم عنوة خلال «الحقبة السورية».
ولكن، تبيّن أنّ ما دفعَ «المستقبل» الى تأجيل هذا الحوار الذي كان مقررا في 9 تشرين الجاري، هو الجَو المتشنّج بفِعل التحركات الاخيرة في الشارع، والتي تقاذف بعض القوى السياسية كرة الاتهام بالتحريض عليها او العمل على تشويه اهدافها وشيطنتها، فضلاً عن المواقف التي أطلقها النائب العوني زياد اسود عبر قناة «الجديد»، حيث ألقى اللائمة في الازمة الاقتصادية والمالية المتفاقمة في البلاد على الرئيس الراحل رفيق الحريري وحكوماته في حقبة التسعينات من القرن الماضي. ولكنّ هذا الحوار سيحصل لاحقاً عندما تهدأ النفوس، التي ساءها «التعرّض» لإرث الحريري الأب.
لا انفكاك متوقعاً في العلاقة بين الحريري وباسيل، فالاول يدرك انّ خروجه من رئاسة الحكومة، بفِعل استقالة طوعية او اي سبب آخر، قد يكون خروجاً لفترة طويلة من السلطة، بل انّ البعض يقول انّ البلاد في هذه الحال قد تبقى بلا حكومة حتى ما بعد الانتخابات النيابية ربيع 2022. وأكثر من ذلك يردد كثيرون انه في حال حصول اي فراغ في سدة رئاسة الجمهورية، لأيّ سبب، فإنه سيكون من الصعب جداً انتخاب رئيس جمهورية جديداً قبل إنجاز الانتخابات النيابية في ايار 2022، لأنه يستحيل في الوضع الراهن حصول اتفاق داخلي وخارجي على اسم شخصية تخلف عون في سدّة رئاسة الجمهورية.
وعلى رغم من انّ هناك بضعة أسماء جدية مرشحة، أو يرشحها البعض للاستحقاق الرئاسي، وفي كنف كل مرشح من هؤلاء اسم المرشح لتولّي رئاسة الحكومة خلال عهده في حال فوزه بالرئاسة الاولى.
ويدور في بعض الكواليس السياسية والديبلوماسية كلام كثير عن مستقبل الوضع الحكومي، ويتركز الكلام اكثر عمّن يتولى الرئاسة الثالثة في حال استقالة الحكومة لعِلة ما، او إقالتها بـ»ثلث معطل» يتكوّن فجأة. وفي هذا الصدد تطول لائحة اسماء المرشحين حيناً وتقصر احياناً، ولكن عند البحث في كل اسم يتبيّن انّ صاحبه مقبول هنا ومرفوض هناك داخلياً وعلى المستوى الخارجي.
فإلى اسماء أعضاء نادي رؤساء الحكومة السابقين، هناك اسماء نَبتت خارج هذا النادي، وتعتبر ان لديها حيثياتها ورصيداً من العلاقات الداخلية والخارجية، ما يجعلها مرشحة جدية لمنافسة الآخرين على موقع الرئاسة الثالثة.
وفي العلاقة بين المملكة العربية السعودية والحريري كلام كثير، منه السلبي ومنه الايجابي، وعلى هامشه يحاول بعض المرشحين من رؤساء حكومة سابقين أو من طامحين، خَطب ودّ المملكة في اعتبارها «الناخب الاكبر» غالباً في الاستحقاق الحكومي اللبناني، ولكن حتى اللحظة لم تصدر عن المملكة اي اشارات تتصل بمستقبل الوضع الحكومي اللبناني، في الوقت الذي تبدو منشغلة بقوة بالاوضاع الاقليمية التي تحوز على اهتمامها بالدرجة الأولى.
والبعض يقول انّ موضوع تغيير الحكومة الذي بدأ يطرحه البعض علناً حيناً، وبخَفَر أحياناً، يحتاج الى بحث وتفتيش في أبعاده والخلفيات لاستبيان مدى جديته، وهل هو مناورة سياسية يمارسها البعض للضغط اكثر مالياً واقتصادياً على لبنان ليصيب من خلاله «حزب الله» وحلفائه واتهامهم بالتسبّب بهذه الحال، وبالتالي إحراجهم امام الرأي العام الداخلي والخارجي تمهيداً لإخراجهم؟ أم أنّ هناك فعلاً توجهاً خارجياً وداخلياً لإسقاط الحكومة، وبالتالي قلب الطاولة في وجه العهد وحلفائه وعلى رأسهم «الحزب»، تمهيداً لتأليف حكومة جديدة لا يكون رئيسها «مطواعاً» مع رئيس الجمهورية و»مُهادناً» مع «حزب الله» بحسب ما يتهم البعض الحريري؟
غالب الظن انّ الوضع الحكومي باقٍ على ما هو لاقتناع الجميع انّ تغيير الحكومة ليس بالأمر السهل، لأنّ الاتفاق على حكومة جديدة رئيساً وأعضاء هو الصعوبة، ما يُبقي البلاد بلا حكومة حتى انتخابات 2022، علماً انّ ما من فريق سياسي يعتقد انّ حصته الوزارية في أي حكومة جديدة ستكون بمقدار حصته في الحكومة الحالية.