بين التصاريح المُتشائمة والتي تتحدّث عن قُرب الإنهيار الإقتصادي والمالي في لبنان، وتلك المُتفائلة والتي تتحدّث عن توفّر القُدرة على السيطرة على الوضع المالي لفترة زمنيّة طويلة، على الرغم من كل الصُعوبات والضُغوط، ضاع اللبنانيّون، وصاروا عرضة للإشاعات التي تأخذهم يمينًا ويسارًا في لحظات! فأين الحقيقة ممّا يحدث؟.
في الواقع لم يعد لبنان بمنأى عن الصراعات الدائرة في المنطقة. نجح لبنان نسبياً طوال السنوات الماضية في إبعاد نفسه عن الحرائق المشتعلة حوله. حتى في لحظات الإنقسام السياسي والخلاف التي نظّم بمنطق ربط النزاع، بقيت البلاد قادرة على تسيير أمورها، اما اليوم فإن الأمور تنحدر نحو الأسوأ. جملة معطيات تشتبك ببعضها البعض، فسعر الليرة آخذ بالتراجع، في واقع يحاكي الوضع السوري والعراقي على الصعيد الإقتصادي، والفساد. بغض النظر عما إذا كانت تظاهرات الأحد عفوية أو أن ثمة جهة معينة تحركها أو تستفيد من عفويتها لإستغلالها سياسيًا والتصويب من خلالها على أهل السلطة، التي يبدو أنها في وادٍ والشعب في وادٍ آخر، أو بالأحرى لا يعرفون ماذا يجري على الأرض ومدى معاناة المواطنين، الذين لم يجدوا وسيلة لإسماع صوتهم سوى النزول إلى الشارع، على رغم بعض المظاهر، التي لا تصّب في خانة خدمة القضية الأهم، والتي كانت الدافع الأساسي لخروج الناس من شرنقة الصمت والدفاع عما يعتبرونه حقًا من حقوقهم المسلوبة ورفع الصوت في وجه بعضٍ من لامبالاة أهل الحكم، الذين يفتشون عن الحلول للأزمات الإقتصادية والمالية التي تنهش جسم الوطن، على حساب عامة الناس ومن حساباتهم ومن جيوبهم.
الصراع السياسي المغلّف بالخلافات الطائفية والمذهبية، يتقدّم على كل ما عداه من عناوين تهمّ المواطنين، وكأن المقصود هو إلهاء الناس بهذه الشعارات الطائفية والمذهبية التي تحاكي الغرائز، لتنسيهم مشاكلهم وهمومهم ولتنسيهم جوعهم واحتياجاتهم، فيصبح أي استقطاب هو استقطاب طائفي ومذهبي على قاعدة حرب الوجود.
ما يجري يتحمّل مسؤوليته كل القوى السياسية، التي تبحث خلف مراكمة إنجازاتها على حساب الجميع وادعاء الإنتصارات ومنطق القوة، في الطائفة وفي الشارع والحي، على حساب مناعة الوطن وترهله. فشتان بين واقع اليوم، وواقع الحركات المطلبية والإحتجاجية والنقابية والعمالية التي سادت في لبنان في الستينيات والسبعينيات والتي كانت محركاً أساسياً لدورة السياسة والإقتصاد في البلاد. أما اليوم، فالجميع يحتكم للغة الغرائز.
لا يختلف إثنان أنّ الوضع الإقتصادي الحالي في لبنان غير سليم على الإطلاق، وهو بلغ مرحلة مُتقدّمة من التراجع بحيث أثّر سلبًا على الوضع المالي. وهذه الحقيقة مَلموسة وواقعيّة، وهي تعود إلى العديد من الاسباب التي اصبحت معروفة للقاصي والداني .
إقرأ أيضًا: ما يجري يطرح علامات إستفهام كبرى ونقاشات حامية الأسبوع المقبل!
ان ما شهدته بيروت الأحد، لم يكن ليقارن بالثورة الشعبية، على الرغم من أحقية الإحتجاجات، كان جزءاً من أجزاء الصراع الكبير، الذي يشهده لبنان المتجاذب بين محاور إقليمية متعددة، فيشمل هذا الصراع، صراعات سياسية بين مختلف القوى، وصراعات في كل مؤسسات الدولة وعليها. وبذلك أراد البعض تحويل ساحات بيروت المطلبية إلى غايات سياسية في الصراع على المكاسب المتنازع عليها، والتي تستخدم فيها كل أساليب الأسلحة، في السياسة، الإقتصاد، والمال، وكل ما يعنى بشؤون اللبنانية، فقط لأجل تحقيق أهداف سياسية.
في الخُلاصة، ما يحتاجه لبنان اليوم، هو وقوف اللبنانيين موقفاً واحداً موحداً متراصاً إلى جانب بعضهم البعض دفاعاً عن حقوقهم، ورفضاً لكل مشاريع الهدر والفساد والتحاصص والتقاسم، ووقف هذا المسار المستفحل منذ سنوات ويتم توفير الأغطية الطائفية والمذهبية لتمريره، فيتحول الناس ومصالحهم إلى متاريس يقف خلفها السياسيون في مساعيهم لتحقيق صفقاتهم وإبرامها. هذا النوع من التحركات، حكماً يجب أن يرتكز على مصلحة اللبنانيين وحقهم بالعيش الكريم بعيداً عن أي اصطفافات سياسية أو مذهبية.
القراءة الموضوعيّة تؤكّد وُجود صُعوبات، لكنّ المعالجات قاصرة عن ايجاد الحلول الناجعة. لكنّ الرأي العام الذي بدأ بالتعبير عن غضبه عبر تظاهرات هنا وقطع طرقات هناك، بحاجة إلى تطمينات، لأنّ الإشاعات كثيرة ومنها ما هو خطير، مثل أنّ قرارًا سريًا إتخذ بتحرير جزئي ومحدود لسعر صرف الدولار، وذلك بهدف خفض قيمة الدين العام وسندات الخزينة من جهة، وتحسين القُدرة على دفع رواتب القطاع العام بعد تخفيف قيمتها الفعليّة نسبة إلى الدولار!فهل ستتحمّل السُلطة التنفيذيّة مسؤوليّتها، وتُبادر إلى تقديم التطمينات المُنتظرة، وإلى تطويق التظاهرات في مهدها قبل تحوّلها إلى أعمال شغب ربما يستفيد منها بعض الخارج، أم يبقى اللبنانيّون عرضة لمخاطر الإشاعات المُدمّرة، في ظلّ تقاذف المسؤوليّات عمّا يحصل؟!