قبل الدخول في تفنيد سلسلة الآراء والسيناريوهات المرسومة للوضع النقدي والمالي وما شَهدته الساحة اللبنانية قبل أيام من فوضى مالية ونقدية، هناك إجماع على أنّ المقاربة الموحّدة للأزمة غير متوافرة حتى اليوم، وأنّ المسؤوليات المُلقاة على بعض أهل الاختصاص والمعنيين بالملفات المالية والنقدية لا تفيض بكثير عن المسؤوليات المُلقاة على أركان الحكم والحكومة من دون استثناء.
وعند توزيع المسؤوليات، يجدر التوقّف عند نظرية واضحة وصريحة تقول إنّ ما حصل لم يكن حادثاً مفاجِئاً لأحد. فالمسؤولون في مختلف المواقع المعنية كانوا يتوقعون السيناريوهات المخيفة المتداوَلة في الكثير من الغرَف المغلقة، وفي كواليس عدد من المؤتمرات والاجتماعات التي تجرّأ البعض على نَشر ما صدر عنها من توصيات الى العَلن ومنها ما بقي مَخفيّاً، مع الحرص على عدم تسريب ما توصّلوا إليه خوفاً من انعكاسات لا مفر ّمنها، ولكن يمكن تأجيلها الى أمَد معيّن.
وفي هذه الأجواء، يكشف أحد كبار المصرفيين أنّ ما شهدته البلاد من فوضى في صَرف العملة الخضراء بأكثر من سعر رسمي وغير رسمي لم يكن مفاجئاً، بل كان متوقّعاً بين ليلة وضحاها، وفق سيناريو تقود إليه سياسة تأجيل القرارات التي تَردّدت الحكومة في اتخاذها، إن لم يكن هناك مَن يعرقلها عن سابق تَصوّر وتصميم لأسباب متّصلة بمصالح آنية، ومعادلات يسعى البعض الى تكريسها رغم خروجها عمّا يقول به الدستور ومبدأ الفصل بين السلطات.
ويضيف كبير المصرفيين أنه من الخطأ الاعتقاد أنّ التَعمية على مسلسل الأخطاء المرتَكبة في بعض القطاعات، يمكن ان يقود الى تأجيل ما هو محتوم. ففي عالم المال والأعمال قواعد أساسية لا يمكن تجاوزها، وهي تحتسب من باب الخسارة او الربح، ولا وجود لِما هو بين المَنزلتين. وإن حاول أحدهم صَرف النظر عن خطأ ارتُكِب من هنا او من هناك، فإنّ الأخطاء المتراكمة يمكن ان تؤدي الى ما هو مُذهل ومخيف.
ويستطرد انّ التلاعب بما هو مطلوب من القرارات الصعبة التي كشفت عنها المؤسسات المانحة وتلك المعنية بالتصنيف، مرفوض بشكل لا يقبل أيّ لبث. وهي، وإن انطَلَت على بعض اللبنانيين، فهي لا تؤخر ولا تقدّم في نظرة المجتمع الدولي. فالحديث المتنامي عن قرارات موجعة لم تقدم عليها الحكومة بعد، لأنّ الآلية المعتمدة تنمّ عن سَعي بعض أطرافها الى الإمساك بمختلف مفاصل الحياة، وهي التي قادت البلاد الى نوع من الخلل الذي لا يمكن ترميمه أو تجاوز تداعياته.
كان مطلوباً منذ سنوات أن تعالِج الحكومات المتعاقبة أبواب الهدر والفساد والابتعاد قدر الإمكان عن إدارة الشؤون المالية والنقدية برؤية مختلفة تماماً عمّا جرى. فمواجهة كلفة الدين العام والفروقات الكبيرة في الميزان التجاري، لا تقل أهمية عن الفشل في إحياء بعض القطاعات، ولاسيما منها السياحة والاصطياف، تزامناً مع اتخاذ الإجراءات التي تعزّز الاستثمارات في القطاعات المُنتجة وفي المشاريع التي تؤدي الى تكبير حجم الإقتصاد.
فإذا بالحكومة تعزّز سياسة الإعفاء من الضرائب والرسوم، وتسهيل ارتكاب المخالفات في الشركات الكبرى، والتغطية على أوجه الفساد والفشل فيها. فانخفضت مداخيل المؤسسات الإنتاجية، كقطاع الإتصالات بمختلف وجوهه المتّصلة بالخلوي والإنترنت والشبكات الأرضية، بنسَب مخيفة، وتعاظَمت خسائر الكهرباء نتيجة الفشل في بناء المعامل والشبكات، وإن سجّلت العائدات الجمركية زيادة طفيفة فقد بقيت دون ما كان مُنتظراً منها في ظلّ الفلتان على المعابر الشرعية قبل غير الشرعية.
والأسوأ من ذلك أنه في الوقت الذي كان لبنان يحتاج الى مزيد من النأي بالنفس عن بعض الأزمات الكبرى، اقتيدَت البلاد الى المزيد من التدخلات الخارجية التي أبعدَت بعض أوجه الدعم التي كانت مُنتظرة من أكثر من طرف، وجاء مسلسل الأحداث الأخيرة ليعزّز هذا التوجّه في أكثر من قطاع، فنَدر المصطافون وغاب المستثمرون وفَرّت مليارات عدة من لبنان الى حيث الموئِل الأفضل والأكثر أمناً. وساءت علاقات لبنان بالخارج، ولاسيما الدول الخليجية، فتراجعت أدوارها على الساحة اللبنانية لصالح قوى أخرى لا تؤمن بالتركيبة الاقتصادية في لبنان، وتطمح الى جَر البلاد الى محاور لا تُؤتي إلّا بالمزيد من الخسائر.
عند هذه الملاحظات التي يمكن التوسّع في الكثير منها، لا يتجاهل المعنيّون ما أدّى اليه الاهتزاز السياسي في البلاد واستمرار الخلاف على شَكل ومضمون العلاقات بين السلطات والمؤسسات الدستورية. فاستبعدت قرارات كبيرة كانت مُنتظرة، وتراجعت الحياة السياسية الى الحدود الدنيا وصولاً الى فقدان ثقة اللبناني بدولته ومؤسساتها.
وبناءً على ما تقدّم، لا يريد المصرفي الكشف عن كل ما يملك من قرائن ودلائل على ما يشجّعه على المزيد من التشاؤم، فيشير الى أنّ المواجهة مفتوحة والسباق قائم بين «سلحفاة الإصلاح والتغيير» ودينامية الحركة المالية والاقتصادية التي لا تنتظر أحداً. فالسباق غير متكافىء، وهذه هي النتائج المتوقعة من دون أن يتسبّب أيّ ممّا حصل بأيّ شكل من أشكال المفاجآت، فهي محسوبة بدقة، وليس هناك أخطر من وجود مَن لا يريد أن يرى أو يسمع.