على رغم من بعض التنفيسات على المستويين الاقتصادي والمالي، ظلت الأزمة تراوح مكانها، وهي بالتالي تُواصل مسيرة الانحدار نحو الهاوية، بصَرف النظر عن «حقنات المورفين» التي تخفف الآلام مؤقتاً.
وقد شَهد اهتمام رئيس الجمهورية ميشال عون، أمس، تركيزاً استثنائياً على الوضع المالي، حيث التقى حاكم مصرف لبنان رياض سلامة الذي قال انّ التعميم الذي سيُصدره اليوم يضمن تأمين الدولار لاستيراد المحروقات والطحين والدواء، وهذا الأمر سيخفّف الضغط على طلب الدولار في سوق الصرافة، بما قد يساهم في تهدئة السوق، وربما يؤدي الى تراجع سعر صرف الدولار في السوق الرديفة.
وفي معلومات لـ«الجمهورية» انّ اللقاء دامَ ساعة بين عون وسلامة، خُصّص للبحث في ما جرى على المستوى النقدي، في توقيت اعتبره رئيس الجمهورية مُريباً لارتباط ما حصل باللحظة التي غادرَ فيها الى نيويورك، ما أثار شكوكاً في انّ ذلك كان مُخطَّطاً له لاستهدافه في هذه المرحلة الدقيقة بالذات، ولنشر الفوضى التي حصلت أثناء لقاءاته في نيويورك والتشويش عليها.
وقالت مصادر، اطّلعت على مضمون اللقاء، لـ«الجمهورية»، إنّ سلامة كان واضحاً عندما عرض أمام رئيس الجمهورية ما حصلَ في سوق النقد بأدقّ التفاصيل، منذ بداية التطورات التي تلاحقت على مدى أيام، والظروف والمسبّبات التي يعتقد انها هي التي قادت الى ما حصل، وتسلسل الأحداث والمواجهة التي قادَها بالتعاون مع رئيس الحكومة سعد الحريري، الذي عرضَ معه سُبل مواجهة مسألتَي الفلتان الذي شَهدته سوق الصيرفة في بيع وشراء العملة الخضراء بأسعار تتجاوز السعر الرسمي، وتنظيم العلاقة الواجِب قيامها بين أصحاب محطات المحروقات وشركات التوزيع التي تبيع النفط ومشتقاته بالليرة اللبنانية وشرائها من الشركات المستوردة للنفط ومشتقاته بالدولار، وكذلك بالنسبة الى القمح والأدوية.
وعلمت «الجمهورية» انّ سلامة كان واضحاً في حديثه عن الاتصالات التي شَملت جمعية مصارف لبنان، باعتبارها إحدى حلقات الحَل المنشود. وأبلغه بما توافَر لديه من معلومات عمّا شهده بعض المصارف، وشركات الصيرفة التي كانت مسرحاً لكلّ ما حصل من فوضى وتَلاعب بأسعار الدولار، دَلّت الى مدى جَشع البعض لكسب المال السريع أيّاً كانت النتائج المترتبة على ما حصل، وصولاً الى الأشخاص الذين أدّوا أدواراً بارزة في هذه العملية التي امتدّت لأيام عدة متتالية.
وبعدما شرحَ سلامة الآليّة التي تمّ التفاهم في شأنها لتوفير القمح والمحروقات والأدوية، أبدى رئيس الجمهورية ارتياحه إليها، وشَدّد على أهمية ان يؤدي مصرف لبنان دوره بالتنسيق والتعاون مع المصارف وشركات الصيرفة، كلّ بحسب صلاحياته ومسؤولياته، لمَنع استغلال التدابير الجديدة والحؤول دون استثمارها في غير وجهتها، لتجاوز ما حصل والسّعي الى عدم تكراره مرة أخرى. لافتاً الى أهمية أن يلتزم جميع الأطراف بما عليهم من مسؤوليات، وتحديداً في مثل الظروف التي تمر فيها البلاد والمنطقة، وما يُخَطّط للبنان من مؤامرات اقتصادية ومالية تفوق في خطورتها الاستهدافات الأمنية.
عون وصفير
وفي اللقاء الذي جمعَ عون برئيس جمعية مصارف لبنان سليم صفير، قالت مصادرمطّلعة لـ«الجمهورية» إنّ هذا اللقاء شَكّل استمراراً لجدول أعمال اللقاء مع سلامة، فكان حديث مفصّل عن الآلية المعتمدة لحل القضايا الطارئة، والسعي الى العودة بسرعة الى مرحلة الاستقرار المالي والنقدي وحماية القطاع من أي خروق مُحتملة يمكن أن تقود البلاد الى حيث لا يريد أحد، مُشدداً على أهمية استعادة الهدوء الذي نَعِم به لبنان رغم كل ما يجري في محيطه على كل المستويات، وخصوصاً الإقتصادية، التي تشكّل دعامة للأمنَين الأمني والاجتماعي.
ألان عون
ورداً على سؤال: هل بلغت الأزمة ما بعد الخطوط الحمر، وهل من إمكانية لاحتوائها؟ قال عضو تكتل «لبنان القوي» النائب ألان عون لـ«الجمهورية»: «لا أعتقد انّ هناك تجاوزاً لخطوط حمر، إنما لا شك في أننا نمرّ بمرحلة شديدة الخطورة، إذا لم نَستدرِك الأمر ونوقِف التدهور الذي يتفاقم». وأضاف: «ما علينا أن نقوم به هو خطوات إنقاذية، ولكن يستحيل أن تحصل إذا لم تكن باقتناع وغطاء كل القوى السياسية المَطلوب منها أن تتحمّل مسؤولياتها بجرأة، بعيداً عن أي حسابات شعبوية أو سياسية».
ورأى عون «أنّ الحكومة ومجلس النواب مدعوّان، إبتداء من موازنة 2020، الى اتخاذ تلك الخطوات، ولإقناع الداخل والخارج بأنهما يُمسكان بزمام الأمور، وهذا ما هو مَحطّ شكوك كبيرة لدى كثير من اللبنانيين ولدى اللاعبين الدوليين، وإذا لم نُعاكِس هذا الإنطباع لا يمكن أن نستعيد الثقة، ونضع حداً لحال الهَلع والخوف التي تُترجَم بتفاقم الأزمة، على غرار ما حصل بأزمة صرف الدولار الأخيرة».
خبراء اقتصاديون
على انّ خبراء الاقتصاد يتخوّفون من نتائج دفع مصرف لبنان الى القيام بدور يفترض أنه من مسؤولية الحكومة. وفي هذا السياق، قال الخبير غازي وزني لـ«الجمهورية»: «إنّ الحكومة تهرّبت من مسؤولياتها في الموضوع الاقتصادي، ونقلتها الى مصرف لبنان الذي أصبحت حماية الاستقرار مُناطة به، وقد أضيفت إليه مسؤولية جديدة وهي تمويل الاقتصاد وتنظيم عمليات الاستيراد، في حين انّ هذا الامر ليس من مسؤوليّاته، بل انّ هذه العملية ستؤدي الى نزيف إضافي لاحتياطات مصرف لبنان بالعملات الاجنبية».
على انّ مصرف لبنان سيضطرّ، من خلال التعميم الذي سيصدره اليوم، الى تأمين 4 مليارات دولار لضمان استيراد هذه المواد لمدة سنة. وهذا النَزف سيزيد الضغط على الاحتياطي الاجنبي لديه، ويُضعف قدراته في تأدية وظيفته الاساسية لجهة ضمان استقرار سعر النقد الوطني.
بالاضافة الى ذلك، سيفتح هذا التعميم شَهيّة كل القطاعات الاقتصادية للمطالبة بالتسهيلات نفسها التي حصل عليها البنزين والدواء والطحين. وكان أوّل الغيث أمس بيان جمعية الصناعيين، الذي طالبَ بأن يشمل التعميم استيراد المواد الأولية المُستخدمة في الصناعة. وقد تَكرّ السُبحة غداً، وترتفع أصوات قطاعات أخرى تقدّم تبريرات للمطالبة بتسهيلات.
وعلى رغم من محاذير التعميم، فإنّ شركات استيراد النفط بَدت متحفّظة عنه قبل صدوره. وطالبَت بالاطّلاع على تفاصيله قبل الموافقة على تنفيذه، ما يطرح علامات استفهام حول مفاعيله وهو يتعرّض للتحفّظ قبل صدوره.
وفي انتظار نتائج التعميم المتَوقّع اليوم، تبقى السوق الرديفة ناشطة، حيث بقيَ سعر صرف الدولار أمس لدى الصرّافين 1560 ليرة للدولار الواحد. وهناك من يؤكد انّ السوق الرديفة أصبحت من صُلب المشهد الاقتصادي، وستستمر، وستطبَع المرحلة المقبلة التي ستكون صعبة على كل المستويات، وستؤدي حتماً الى تراجع القُدرات الشرائية للمواطنين.
«إبرة مخدّرة»
في جانب آخر، توقعت مصادر مصرفية أن يهدأ سوق الدولار، بعد التعميم الذي سيُصدره مصرف لبنان اليوم. لكنها لفتت الى أنّ التعميم المنتظَر، على أهميّته، سيبقى مجرد «إبرة مخدّرة» لن تتمكن من احتواء الأزمة، ما لم يَقترن بخطوات حكومية سريعة، تفترض عَقد «جلسات طارئة» للحكومة، الى جانب البحث في موازنة 2020، والشروع في إجراءات احتوائية للوضع يأتي في مقدّمتها استكمال بعض التعيينات في المراكز المُلحّة، كنواب حاكم مصرف لبنان، والهيئات الناظمة في الكهرباء والاتصالات والطيران المدني.
الشائعات والملاحقات
الى ذلك، عابَت أوساط سياسية على السلطة عدم تحركها لملاحقة أيّ من مُطلقي الشائعات السلبية عن واقع البلاد المالي والاقتصادي، سواء عبر مواقع التواصل الاجتماعي أو غيرها، فيما هي تلاحق عادة كل من يُبدي رأياً أو ينتقد رئيساً أو قطاعاً معيناً بتهمة «الاعتداء على أمن الدولة»، وكأنّ استباحة البعض لأوضاع لبنان المالية والاقتصادية لا تشّكل اعتداء على هذا الأمن!!.
وفي هذا السياق علمت «الجمهورية» انّ مراجع سياسية تَلقّت تقارير أمنية تفيد أنّ «جهات مجهولة»، تَشنّ حملة إشاعات في شتى الاتجاهات.
ووفق المعلومات، فإنّ تعليمات وجّهت الى بعض الأمنيين بوجوب التحرّك الفوري لكشف هذه الجهات ومحاسبتها، خصوصاً انّ هذه الشائعات التي تُطاول مؤسسات مصرفية وتجارية معيّنة، وكذلك بعض المصارف، تَسبّبت بحال من الذعر مِن شأنها مفاقمة الأزمة أكثر ممّا هي مُتردية.
وتضيف المعلومات انّ اتصالات جرت على المستوى السياسي، وتمّ التركيز خلالها على وجوب تحرّك الأجهزة الامنية المعنية، ولاسيما منها تلك التي تملك أجهزة متطورة تستطيع من خلالها كشف مواقع التواصل المتورّطة بجريمة إطلاق الشائعات.
«القوات»
وقالت مصادر «القوات اللبنانية» لـ«الجمهورية» إنّ «هناك فرصة حقيقية للإنقاذ، وغير صحيح أننا ذاهبون نحو الانهيار، فالانهيار ليس حتميّاً إذا عرفنا كيف نُدير مواجهة الواقع الراهن».
وإذ أشارت المصادر إلى «الحديث عن صورة سوداوية قاتمة من انسداد الآفاق وغياب بَصيص الأمل والنَّعِي المُستمر للحراك الشعبي والوضع المعيشي»، رأت أنّ «هذه الصورة السوداوية ستكون صحيحة في حال لم نُواجِه المرحلة بالطريقة المطلوبة، فيما أنّها ستتبدّد إذا أدركنا كيف نخرج من هذا الواقع».
وأكدت أنّ «إمكانية الخروج من هذا النفق مُتاحة، شرط التزام أجندة إصلاحية بعيدة من الترقيع السياسي».
وقالت: «هناك فرصة حقيقية، ما بين ضغط المجتمع الدولي والضغط الداخلي الذي تقوم به «القوات» وضغط الناس والواقع المعيشي، للخروج من هذا النفق، وإجراء الإصلاحات المطلوبة، إضافة إلى وصول جميع القوى السياسية الى الحائط المسدود، إذ لا يُمكنها أن تواصِل المَسار نفسه الذي أوصَلَ لبنان الى الهلاك».
وشدّدت المصادر على أنّ «ما بين كلّ هذه التقاطعات، هناك فرصة حقيقية للذهاب قُدماً نحو إصلاحات حقيقية، شرط الاستفادة من هذه الفرصة بُغية الدفع نحو خيارات واضحة المعالم تُخرج لبنان من النفق، وتضعه على السكة الاقتصادية الصحيحة».