فكيف يمكن لفرنسا مثلاً، التي تجهد لإطلاق مشاريع «سيدر»، التي ساهمت باريس مالياً في جزء أساسي منها، أن «تتآمَر»، ما يؤدي الى ضرب هذه المشاريع من أساسها. فهذا يناقض ذاك.
وكيف لنا أن نصدّق أن واشنطن، الغارقة في أزمات داخلية حادة، تريد هزّ الاستقرار الداخلي ودفع لبنان الى الانهيار مع كل ما يحمل من ذلك من تَبعات على الشرق الاوسط، في وقت يعلن فيه البيت الابيض بكل وضوح لكل حلفائه في المنطقة أنه لا يريد الحرب مع إيران، وهو لذلك يمتنع عن الرَد على تحديات إيران له.
أضِف الى ذلك استثناء لبنان من برنامج تقليص المساعدات العسكرية الاميركية لبعض الجيوش، والاستمرار في التزاماتها العسكرية. وقبل التطرّق الى الواقع اللبناني، لا بدّ من قراءة أكثر تفصيلاً للواقعَين الاميركي والاسرائيلي كونهما الأكثر تأثيراً بلبنان.
ففي واشنطن طبول الحرب تدقّ بين البيت الابيض والديموقراطيين. ففيما حذّر ترامب من تعرّض بلاده لأخطار غير مسبوقة، وفق تعبيره، فهو باشَر رَصّ صفوف الجمهوريين من حوله، وشَكّل فريق عمل هو أشبَه بخلية أزمة لمواجهة أخصامه.
ذلك أنّ ترامب قرّر المواجهة، بعد شروع رئيسة مجلس النواب الديموقراطية نانسي بيلوسي في إجراءات عزل الرئيس.
ويقول الديموقراطيون انهم قادرون على تأمين أغلبية ولو بسيطة في مجلس النواب لصالح إصدار قرار عزل ترامب، لكن هذا لا يعني انّ المسألة انتهت، فهنالك مَسار يلزم بالحصول على تأييد ثلثي مجلس الشيوخ، والذي يبدو مستحيلاً.
لكنّ المسألة ستعني حَشر ترامب أكثر، والتشكيك بأهليته وشرعيته في المدة المتبقّية أمام حصول الانتخابات الرئاسية. حتى مدير المخابرات الوطنية بالوكالة، جوزف ماغوير، لَوّح بالاستقالة بسبب مخاوف من التعرض لضغوط من البيت الابيض بسبب شهادته. كل ذلك يعني ضرب صورة ترامب أكثر في الداخل الاميركي.
وفي آخر استطلاع أجرَته صحيفة «وول ستريت جورنال» مع شبكة «أن بي سي»، تبيّن أنّ 50 في المئة من المستطلعين لا يريدون عودة ترامب في مقابل 46 في المئة.
لكنّ المشكلة، وفق هؤلاء، هي في شخصية المرشّح الديموقراطي الذي سينافسه، وملاءمته لتولّي رئاسة البلاد.
وفي الاستطلاع إنّ 69 في المئة لا يحبّون ترامب شخصياً بصرف النظرعن أجندته السياسية، فيما 50 في المئة منهم يكرهونه شخصياً ويكرهون سياسته. وهنالك 19 في المئة يكرهون شخصية ترامب، لكنهم يؤيدون سياسته.
في الواقع لم يواجه أي رئيس أميركي هذه الدرجة من العداء الشخصي، كما هو حاصل مع ترامب.
وإذا أضفنا الى ذلك تراجع معدلات نمو الاقتصاد الاميركي، وهي الورقة الوحيدة التي لَوّح بها خلال ولايته على أنها إنجاز، وأيضاً هزائمه الخارجية المُتتالية، وكان آخرها عدم إشباعه درساً قرار خروجه من الاتفاق النووي مع إيران وتراجعه أمام عملياتها العسكرية، وأيضاً سقوط مشروع «صفقة القرن» بسبب خسارة بنيامين نتنياهو الانتخابات، فهذا يعني انّ ترامب في حاجة ماسّة الى انتصار سياسي لا مواجهة عسكرية. وبالتالي، تبريد الاجواء في الشرق الأوسط لا دفعها نحو الفوضى.
وتكفي الاشارة الى ما كشفه الرئيس الباكستاني، غداة عودته من الولايات المتحدة الاميركية، بأنّ البيت الابيض والسعودية أيضاً طلبا منه التوَسّط لدى إيران لتخفيف التوتر في المنطقة وتهدئة الاوضاع، رغم الضربة التي تعرّضت لها منشآت «أرامكو».
وقرار «التبريد» ينطبق بدوره على الساحة اللبنانية، إذ انّ أيّ انهيار قد يصيب لبنان أيضاً سيَدفع به وبالساحات المجاورة الى فوضى غير محسوبة، خصوصاً أنّ في إسرائيل أزمة سياسية وعدم اتّزان يبدو انه سيطول بعض الشيء، وَسط قلق داخلي عسكري مِن تَعاظُم نفوذ إيران ومن قدرة «حزب الله» ومشكلة غزة.
يكفي الاستماع الى رئيس دائرة الأبحاث في شعبة الاستخبارات العسكرية «أمان»، لإدراك مدى المأزق الاسرائيلي. فهو قال: «دخلنا المجال الرمادي الذي تتقدم فيه إيران عسكريّاً، ولكن من دون تسرّع».
وأضاف: «أنا قلق بالتأكيد، فإيران عدو محنّك، واحتمال حدوث تصعيد خطير حالياً باتَ أكبر من الماضي. فنحن في وضع معقّد ويزداد خطورة».
واعترف بما يُناقض الرواية الرسمية الاسرائيلية، بأنه ليس لدى «حزب الله» الآن مصانع إنتاج صواريخ دقيقة على الأراضي اللبنانية.
الواضح أنّ اسرائيل، الغارِقة في الفوضى السياسية الداخلية، لا تحبّذ في هذه المرحلة انهياراً لبنانياً داخلياً يُضعف الدولة، ويجعل «حزب الله» حُرّ التصرّف ويُطلِق يديه في جنوب لبنان.
وهو ما يعني في المحصّلة أنّ المناخ الخارجي يريد للبنان ألّا يقع في المحظور ويغرق في الفوضى، كلّ دولة لحساباتها الخاصة. وبالتالي، فإنّ الكلام الذي أطلقه البعض حول «مؤامرات» خارجية وداخلية لدفع لبنان الى الفوضى والسقوط في «الافلاس» لا يرتكز على معطيات صحيحة.
فالحقيقة أنّ المسؤولين في لبنان لم يبالوا بواقع الدولة الصعب، واستمرّوا في سياسة التبذير والفساد والمحاصصة في التعيينات، التي تأتي بالأزلام والأقارب، وغَلّبوا مصالحهم الشخصية الضيّقة على المصلحة العامة. وحتى في الأمس القريب، غَلّبوا مصالحهم الانتخابية على مصلحة الدولة والخزينة، ربما استناداً الى مقولة انّ الدول الخارجية لن تسمح بانهيارنا، وسيأتي هؤلاء لإنقاذنا في ما بعد.
ما حصل الأسبوع الماضي كان نتيجة طبيعية لحال الاهتراء التي تَنخر الدولة والطبقة السياسية التي تحسب لمصالحها الخاصة، ولو على مآسي اللبنانيين والمصلحة العامة. نحن نعرف جيداً مقولة التلميذ الراسب في المدرسة، والذي يبرّر إخفاقه برَمي المسؤولية على المعلّم وإدارة المدرسة، لكنه في الواقع لم يُنجز دروسه وفروضه.
لذلك، قد يكون علينا الاعتراف أننا أخفقنا.