ينفع اليوم أن يعيد أحمد قعبور أغنيته «الشغل ماشي، والبلد ماشي.. ولا يهمّك». هذه الأغنية هي «حفر وتنزيل» على السّلطة السياسيّة، التي يبدو أنّها منفصلة كلياً عن واقع الشعب المزري.
 

لمواطنون يجتاحون محطات البنزين. إقفال مؤسّسات بالجملة لتزداد نسبة العاطلين من العمل. نزوح من المدارس الخاصّة إلى المدارس الرسميّة. خوف من المجهول يزيده شح الدولار في السّوق المحليّة. أزمة كهرباء. أزمة مياه. أزمة نفايات. حديث عن ضرائب إضافيّة..

وأكثر من ذلك، الوضع الاقتصادي يُنذر بما هو أفظع، وليس لدى هذه السّلطة خطّة طوارئ تحمي المواطنين من تضخّم الأسعار مثلاً. إذ يؤكّد الخبير الاقتصادي جاد شعبان، إمكانيّة إرتفاع أسعار السّلع بحسب تدهور سعر الليرة، وهذا يعني أنّ الليرة إذا خسرت 20 في المئة من قيمتها ارتفعت الأسعار بالنسّبة نفسها!

الأزمات لا تُعدّ ولا تُحصى عند «فئة الشعب». أما في الجهة المقابلة، فتكاد الحياة تكون «ورديّة». كيف؟

فيما يصطف المواطنون طوابير بسياراتهم أمام محطّات البنزين، كان هناك نائبٌ يردّ على الإضراب المفتوح الذي أعلنه نقيب أصحاب محطات الوقود.
لم يأتِ النائب، الذي يُعرف أنّه «صديق للبيئة»، على ذكر معاناة المواطنين، بل أراد التهكُّم على النقيب، فجاءت تغريدته كمقولة ماري أنطوانيت ملكة فرنسا!

بكل ثقة، غرّد هذا النائب قائلاً: «غداً (أمس) سنتجوّل في كل بيروت على الدراجات الهوائية. الطقس مشمس والعصافير تزقزق. وعلينا الاهتمام بصحتنا. والحياة حلوة بس نفهمها».

هو واحدٌ من كثر في هذه السّلطة السياسيّة التي تعيش في مكانٍ آخر. فوسائل التواصل الإجتماعي اشتعلت بالحديث انتقاداً أو دفاعاً عن أداء رئاسة الجمهوريّة التي «يذهب وفدها المؤلّف من أكثر من 60 شخصاً (بينهم وزيران فقط) للمشاركة في الجمعيّة العموميّة للأمم المتّحدة، ويقيمون في أفخم فنادق نيويورك».

وأكثر من ذلك، عندما يُسأل رئيس الجمهوريّة إثر عودته إلى لبنان عن الأزمة الاقتصاديّة، يجيب: «كنت في نيويورك. إسألوا المعنيين، فهناك مسؤول عن النقد هو حاكم مصرف لبنان ومسؤول عن المال هو وزير المال، وأنا لست على علم بما حصل خلال غيابي»!

أما ما قاله وزير الخارجيّة والمغتربين جبران باسيل عن «فتنة الاقتصاد» فيشير إلى عدم تصديق المسؤولين ما يحصل. هو الذي يجول من بلد إلى آخر كي يطلب من المغتربين استعادة الجنسيّة اللبنانيّة. ربّما لا يدرك أنّ أداء هذه الطبقة السياسيّة أفقد هذه الجنسيّة قيمتها.

ولا يختلف باسيل عن غيره ممّن هم في سدّة السلطة. «حزب الله» مثالاً. من المؤكّد أنّ نوابه ووزراءه هم الأكثر نشاطاً في عقد المؤتمرات الصحافيّة للحديث عن الفساد المستشري في المؤسسات. يدلّون بالإصبع إلى مكامن الخلل، ثمّ يسجّلون «الجرائم الماليّة» ضدّ مجهول.

هذا أيضاً ينطبق على جميع المسؤولين ورئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع ورئيس حزب «الكتائب» النائب سامي الجميّل وغيرهم.. عندما ينطق الشعب يوماً، سيقول لهم: «ما لي أسمع جعجعةً ولا أرى طحناً».

و«الجعجعة الكبرى»، كانت مقررات اجتماع بعبدا الذي أعلن حال طوارئ اقتصاديّة. أين أضحت هذه المقرّرات التي كان يمكن لها لو طُبَّقت أن تقطع الطريق على هذه الأزمة؟ من الواضح أنّها صارت في «خبر كان».

في المقابل، تكاد تكون مسؤوليّة الحكومة هي الأكبر. وزراؤها منشغلون بمناقشة بنود موازنة 2020، وقد تعيد الإصلاحات التي سيتم إدخالها فيها ثقة المواطنين بدولتهم. ولكن من يؤكّد أن تكون للحكومة رؤية واضحة في إقفال مزاريب الهدر في المؤسسات ومعالجة الأزمات وإجراء التخطيط الجدّي؟

الكهرباء أحد هذه النماذج. إذ كيف يمكن الاتفاق على اقتطاع الأموال اللازمة لهذا القطاع من دون الإتفاق على طريقة إدارته!

صحيح أنّ كثيراً من الخبراء الاقتصاديين ليسوا متشائمين من إمكانيّة وصول البلد إلى الانهيار الكلي، إلّا أنّ غالبيتهم يستغربون أداء السّلطة.

الدكتور لويس حبيقة، يشير إلى الضياع والفوضى اللذين يعتريان سياسات المسؤولين. لافتاً إلى أنّ المشكلة هي في عدم كفاءة الطبقة السياسيّة في معالجة الأزمة وعدم الاستعانة بالخبراء إلاّ بصفتهم «ديكور».

يضع حبيقة الإصبع على جرح المواطنين الذين يشكون من غياب الشفافيّة والصراحة لدى المسؤولين عند الحديث عن هذه الأزمة، داعياً رئيس لجنة المال النيابيّة ابراهيم كنعان إلى جلسة استجواب لحاكم مصرف لبنان رياض سلامة، تُنقل عبر وسائل الإعلام لكي تتكشّف الضبابيّة عند المواطنين.

في حين يشدّد الخبير جاد شعبان على ضرورة رسم سياسة على المدى القصير، من خلال وضع خطّة طوارئ وتشكيل لجنة من ممثلين لوزارة المال ومصرف لبنان والسلطة القضائيّة والمديريّة العامّة لقوى الأمن الدّاخلي، تكون مهمّتها مراقبة أسعار السّلع ومتابعة القضايا الحياتيّة المباشرة للمواطنين ولجم الشركات المستوردة وجشع المصارف.

أمّا الوزير السّابق شربل نحّاس، الذي يلاحظ «العجز الجماعي لدى الفريق السياسي الموجود»، فيشير إلى أهميّة إقامة طاولة حوار تضمّ الزعماء السياسيين، للخروج بطروحات تقي لبنان هذه الكارثة.