هل الطبقة السياسية ترتكب «الفساد للفساد»، أي من دون غايات سياسية مبيَّتة، وفقط لتحصيل المكاسب الخاصة للحاشية والسلالة والمحاسيب، أم إنّ الأمر أبعد من ذلك؟ وهل يمكن أن يكون الفساد مدروساً ومخطَّطاً له، من أجل تسهيل السيطرة الخارجية وإلزام لبنان بخيارات يصعب إمرارُها في ظل دولةٍ قوية متماسكة وتمتلك قرارها وسيادتها؟
إنّ مجرد طرح الأسئلة يستثير هواجس تعصف باللبنانيين، لكنهم «يبلعون» الكثير منها ولا يجرؤون على البوح به، لاعتبارات مختلفة. ويمكن تعداد أبرز هذه الهواجس التي تعبِّر عنها جهات مختلفة، والتي تبدو متناقضة في غالب الأحيان:
1 - الهاجس الأول: في نظر البعض، إنّ انهيار لبنان تحت أعباء الديون مطلوبٌ لتنفيذ مؤامرة توطين الفلسطينيين. وفي صراحة، طالما وجَّهت قوى سياسية وطائفية ومذهبية اتّهامات إلى قوى أخرى بافتعال الانهيار، بحيث تأتي الدول المانحة وتنتشل لبنان مقابل موافقته على التوطين، كجزء من خطة كبرى للحلّ في الشرق الأوسط. وهذا الأمر جرى إنكارُه بقوة وأثار أزماتٍ مريرة. ولا داعي هنا للتذكير بالتفاصيل منذ تسعينيات القرن الفائت. فالكل يعرفها.
2 - الهاجس الثاني: في المقابل، يرى البعض أنّ إسقاط لبنان مالياً واقتصادياً سيكون أكبر خدمة للمشروع الإيراني في المنطقة. فهناك مؤسستان صامدتان حتى اليوم، وهما تختصران صورة الدولة اللبنانية في زمن انهيار المؤسسات الأخرى. إنهما الجيش والمصرف المركزي. وإذا سقطتا تفقد الدولة مقوّماتها الحقيقية.
إنّ سقوط الدولة- وفق هؤلاء- يبرّر الدخول في المؤتمر التأسيسي الذي سيتمكّن «حزب الله» من خلاله إلحاق لبنان بالمحور الإيراني تماماً. وطبعاً، هذا الأمر يُنكره «الحزب» ويؤكد أنه المتضرِّر الأكبر من إسقاط الدولة التي توفِّر له التغطية والحماية.
3 - الهاجس الثالث: في نظر «حزب الله»، هناك مخطط تنفّذه القوى الدولية، والولايات المتحدة تحديداً، لإسقاط لبنان وإخضاعه، من أجل السيطرة عليه كبوابة على المتوسط وخطّ ممانعة ضد إسرائيل وللسيطرة على موارده النفطية الموعودة. ويرى «الحزب» أنّ الضغوط التي تمارسها واشنطن عليه، من باب العقوبات، هدفها القضاء على الممانعة. وضمن هذا السياق، يجري الضغط على القطاع المصرفي اللبناني والمؤسسات الشرعية كلها.
4 - الهاجس الرابع: تقصَّد الرئيس ميشال عون أن يُلقي الضوء بقوة على عامل النازحين السوريين، في كلمته أمام الجمعية العمومية للأمم المتحدة، فحذّر من تحويل هؤلاء «رهائن في لعبة دولية للمقايضة بهم، عند فرض التسويات والحلول». ووصف الملف، مرة أخرى، بأنه يهدّد الكيان اللبناني. أي إنّ عون أضاف عامل الصراع السوري، أو الصراع على سوريا، باعتباره جزءاً من عملية تهديد الاستقرار اللبناني. وكلامه يبيِّت اتهاماتٍ مختلفة في اتّجاه قوى إقليمية ودولية عدّة.
وإذ يهدّد رئيس الجمهورية بـ«الانتقام» من هذه «اللعبة» بفتح حوار حول النازحين مع النظام السوري، فإنّ أسئلة كثيرة مطروحة عن استعداد النظام أساساً للدخول في حلّ جدّي لملف النازحين. وفي عبارة أخرى، أليس النظامُ نفسُه جزءاً من لعبة المقايضة حول النازحين؟ وهل ينجرّ لبنان إلى موقع يصبح فيه، هو نفسُه، مادةَ مفاوضة، بسبب عجزه عن أن يكون لاعباً؟
5 - الهاجس الخامس: في اعتقاد كثيرين أنّ إسرائيل لن تتيح للبنان أن يرتاح ما لم يستسلم للمخططات التي تنوي تنفيذها في الشرق الأوسط، خصوصاً في ظل سعيها إلى إنضاج ملفات عدة أساسية كالمفاوضات المنتظرة مع لبنان حول الحدود والموارد النفطية، والتي قد يستتبعها الكثير.
إذاً، التفسيرات التي يمكن إعطاؤها للسقوط اللبناني مختلفة ومتناقضة. ولكن، الواضح أنّ السقوط صار أمراً واقعاً، وأنّ الطاقم السياسي الذي يدير البلد لا يكترث إطلاقاً لهذا السقوط المدوّي واستتباعاته المصيرية، مع أنّ المعالجات لا تبدو صعبة على الإطلاق. وثمة خبراء يجزمون بأنّ إنقاذ الوضع ممكن خلال أسابيع قليلة لمجرد وقف المخادعة والدخول في الإصلاح الحقيقي.
البقرة على وشك أن تقع. وعندما تقع سيكثر السلّاخون. فمَن هم السلّاخون الذين يعملون لتقع البقرة، ومن هم الذين يكتفون بانتظار أن تقع ليشاركوا في الوليمة. وهل هناك بالفعل مَن يساعد البقرة لعلّها تتجنّب المسلخ أم إن الجميع يدفعها إلى مصيرها؟
على الأقل، الطاقم السياسي في لبنان لا يقوم بهذا الواجب، وعلى العكس، وفيما البقرة على وشك الوقوع، هو وجد الوقت المناسب ليذهب في اتجاه آخر.
لا أحد يصدّق أن اللبنانيين يختنقون بحثاً عن دولار يدفع «كمبيالة» أو يشتري قمحاً لرغيف أو ثمن تنكة بنزين للذهاب إلى الشغل، فيما «البابازات» على الطاولة بدأوا التناتش على ما سيبقى من لبنان بعد سنوات، بالسيطرة المسبقة على السلطة، أي قانون الانتخاب!
إنهم أشبه بالغربان التي تحوم حول الجيفة! وأحياناً يبدو الانهيار أكثر رحمة من «استقرار» يتحكّم به أمثال هؤلاء، هؤلاء الواقفين على باب المسلخ!